ثورة الشعوب العربية الغاضبة التي اشتعلت في تونس ثم انتقلت إلى مصر، وجدت صداها في الشارع التركي الذي أبدى منذ اللحظة الأولى وقوفه بجانب المتظاهرين ضد القمع والظلم والدكتاتورية. وخرجت في إسطنبول وأنقرة وعدة مدن أخرى مظاهرات تؤيد هذه الثورة وتطالب برحيل مبارك ونظامه الفاسد المستبد. ولكن موقف الحكومة التركية من غضب الشارع العربي كان غامضا في البداية، ويغلب عليه الحذر الشديد من تبني موقف قد يعد تدخلا في شؤون البلدان الأخرى. هذا الموقف الغامض لم يعجب الرأي العام التركي وبالتالي انتقده كتاب ومثقفون مطالبين رئيس الوزراء التركي ووزير خارجيته بالوقوف مع الشعوب العربية الثائرة دفاعا عن الديمقراطية وكرامة الإنسان وحريته. حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا يخوض منذ عشر سنين تقريبا بمعركة الإصلاح لتعزيز الديمقراطية في البلد وتقليص دور العسكر والقوى العلمانية المتسلطة التي تتدخل في الشؤون السياسية لتوجيهها ولو على حساب أغلبية الشعب التركي. إلا أن هذا التوجه لم ينعكس على السياسة الخارجية التركية التي فضلت التوازن في مخاطبة الأنظمة والشعوب، بحجة الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها. الحكومة التركية كانت في وضع حرج، إذ ليس من السهل أن تقيم توازنا مستمرا بين مطالب وتوقعات الشعوب العربية وبين الأنظمة الشمولية. كما أنه ليس من الصدق أن يدافع الرجل في بلده عن الديمقراطية وحقيق الإنسان ويتحدث عن تعزيز الحريات، ثم يسكت على جرائم الدكتاتوريين، ولا ينبس حول مطالب الشعوب ببنت شفة. نصيحة أردوغان للرئيس المصري بالاستجابة لمطالب شعبه وعدم تمسكه بالكرسي إلى موعد الانتخابات، قائلا "إن الشعب ينتظر من مبارك اتخاذ خطوة مختلفة تماما"، جاءت بعد الانتقادات التي وجهها كتاب ومثقفون إليه وكرد على اتهامهم إياه بالتناقض في موقفه من الديمقراطية، ولكنها في الوقت نفسه يدل على تغيير في السياسة الخارجية التركية، ولو بشكل طفيف وخجول، لصالح حركة الشارع العربي وتأييدها. أعتقد أن أردوغان الذي جعل الاستماع إلى رأي الشارع من أولويات سياسته وسر نجاح حكومته، يريد أن يقول لمارك ومن على شاكلته من الحكام أكثر من ذلك وأنه يتعاطف مع الشعوب العربية المقهورة منذ بداية توليه لرئاسة الوزراء، إلا أنه اختار عدم الاصطدام بالأنظمة، ليس إيمانا بمشروعيتها، بل لكي لا تعيق تلك الأنظمة عودة تركيا إلى العالم العربي وتتمكن حكومته من الوصول إلى شعوب المنطقة بقواها الناعمة لتقيم مشاريع واتفاقيات تعود نفعها للعرب والأتراك جميعا. انتفاضات الشعوب العربية ستريح الحكومة التركية ورئيسها من عناء البحث عن سبل التوازن في مواقفها من الحكام والمحكومين، وستزيل حساسيات الأنظمة تجاه تركيا وتجاه بعضها البعض، لتفتح الباب على مصراعيها لتعزيز العلاقات بين تركيا والدول العربية، والتلاحم والتفاعل بين الشعوب. الكتاب والمثقفون الأتراك يطالبون أردوغان بأخذ المبادرة في تأييد حركة الشارع العربي وعدم السكوت على قمع الشعوب وانتهاك حقوق الإنسان وتزوير الانتخابات، وتفضيل مساندة المطالب المشروعة للشعوب على إقامة العلاقات السياسية والتجارية مع الأنظمة الشمولية، لكي لا يفقد مصداقيته أمام الجماهير العربية المتعاطفة معه والمستاءة من حكامها المستبدين. كاتب ومحلل سياسي تركي [email protected]