حتى الآن لم أستوعب سببا معقولا لعملية شل الحياة العملية للمصريين ومؤسسات الدولة بشكل شبه كامل طوال الأيام الماضية ، ولا أتصور أبدا أن اعتصام الآلاف في أحد ميادين مصر ولو كان ميدان التحرير يمكن أن يشل مصر بكاملها ، هذا خارج عن حدود التصور ، فهل أراد نظام الرئيس مبارك أن يتخذ الشعب المصري ومصالحه والدولة ومقدراتها رهينة لإجبار ثورة الغضب على إنهاء احتجاجاتها ، بدعوى أنهم يعطلون مصالح الناس ويشلون أعمال الدولة . لا أفهم لماذا أبقى الفريق أحمد شفيق على شخصية قمعية وشديدة التخلف المهني وتمثل أحد أقطاب مشروع التوريث وهو أنس الفقي في وزارة الإعلام ، إلا باعتبار أنه مطلوب منه أن يواصل رحلة التليفزيون الرسمي البالية التي أهانت صورة مصر ومؤسساتها الإعلامية المصرية ، إن من البديهي في أي تحولات سياسية مهمة استجابة لانتفاضات شعبية أو ثورية أن يتم تغيير أبرز وجهين لقمع المواطنين : وزير الداخلية ووزير الإعلام ، فلماذا أبقى على وزير الإعلام إن كان يريد إصلاحا بالفعل . وزير الإعلام أنس الفقي كان قد أغلق عددا من القنوات الفضائية الدينية السلفية قبل عدة أسابيع لأنها حسب وصفه قنوات فتنة ودعاتها دعاة فتنة ويغررون بالشباب وينشرون الأفكار الهدامة ، وأمس فوجئ الناس بتليفزيون أنس الفقي يفرد مساحة ساعتين تقريبا على الهواء في أهم ساعات البث لأحد أبرز دعاة هذه القنوات وهو محمود المصري ، فهل اكتشف الفقي الآن أن هؤلاء الدعاة هم دعاة الحكمة والوطنية ، أم أنه بانتهازية شديدة "يستخدمهم" في سياق حملة قمع فكري وديني لرجال الانتفاضة ، ثم يلقي بهم بعد ذلك في أقرب سلة زبالة . بالمناسبة كان موقف هذا الشخص "محمود المصري" مزريا للغاية وشديد التخبط ، فهو متواضع جدا في وعيه السياسي يصل إلى حد السذاجة ، ومع ذلك أقحم نفسه في جدل سياسي مع المحتجين بتكرار قوله أن مطالبكم قد تحققت ، وهذا ليس من شأنه ولا علمه وهو أجهل من أن يخوض في هذا الجانب ، ثم دعوته للشباب بأن يعودوا إلى بيوتهم رأفة بأمهاتهم ، والحقيقة أن من أتى به ليستخدمه جعله يقول ذلك رأفة بمبارك وليس بأمهاتهم ، كما أن طلبه منهم أن يتوقفوا عن نقد مبارك وينشغلوا بالصلاة على النبي ، يحمل إهانة شديدة لصورة الدعاة ولمكانة الدين ، محمود المصري الذي اضطر إلى أن يقسم بالله أكثر من عشرين مرة إدراكا منه أن "على رأسه بطحة" ، يعرف جيدا لماذا أتى به تليفزيون أنس الفقي ، ولخدمة من أتى به ، وقد خسر "محمود" كثيرا بمثل التصرف الذي يشين أي داعية يحترم نفسه ويحترم دينه وكرامة الدعوة . عندما انسحبت قوات الشرطة من كافة مناطق الجمهورية ورفعت الحماية عن جميع مؤسسات الدولة ومنشآتها وتركت الشوارع والبيوت والمؤسسات نهبا للاستباحة في خطة إشاعة الذعر والفوضى والخوف لدى المصريين لجعلهم يقفون سلبيا ضد انتفاضة الغضب ، لوحظ أن أي كنيسة في جميع أنحاء مصر لم يمسها سوء ، ورغم الحرائق المروعة التي شملت أقسام الشرطة ومقار أمن الدولة وبعض المنشآت والمتاجر المترفة ، إلا أن دور العبادة لم يمسها أحد بسوء ، سوف يكتشف المصريون بعد انجلاء ثورة الغضب أن لعبة الطائفية في مصر كانت محض ابتزاز مخطط من جناح التوريث في نظام مبارك لإقناع العالم بأنه الضامن لأمن الأقباط ، وأنه لو ترك السلطة في مصر أو حقق الديمقراطية فإن الأقباط وكنائسهم ومنشآهم ستتعرض للاعتداء ، نظام مبارك مارس طوال سنوات حكمه أسوأ صور الابتزاز للداخل والخارج ، بوضعه دائما معادلة وهمية يخوف بها الآخرين ، مرة تصوير الأمر بأنه إما مبارك وإما الجماعات الدينية ، وتارة بأنه إما مبارك وإما الفوضى وتارة إما مبارك وإما الفتن الطائفية ، ثورة يناير بددت كل تلك الأوهام وكشفت لعبة الابتزاز وأنهتها أيضا . [email protected]