من بين كل مخلوقات الله عز وجل، برز الإنسان ليستحق أن تسجد الملائكة له بأمره سبحانه وتعالى، كما قال فى الآية 33 من سورة البقرة) :وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ..)، حيث وهبه " العقل " الذى يمكنه من أن يُسخر أعتى قوى الطبيعة لمصلحته ... ومن بين سائر مخلوقات الله، قبل الإنسان مسئولية " الأمانة" التى لم تستطعها سائر مخلوقات الله، كما فى سورة الأحزاب (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ...(72)).. ومن بين سائر مخلوقات الله ، كما قال عز وجل فى سورة الإسراء: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14))... ولو ربطت بين هذه الآيات- وهناك غيرها يماثلها مضمونا ومعنى- فسوف تجد أمرين على جانب كبير من الأهمية: أولهما أن الخالق عز وخلق، قد خص الإنسان بالعقل:يفكر ويحسب ويدبر ويتفكر .. ثانيهما، أن سبحانه وتعالى أكسب الإنسان " حرية إرادة " التى فسرت بها الراحلة الدكتورة عائشة عبد الرحمن فى كتابها ( مقال فى الإنسان) ، مسئولية الأمانة المشار إليها فى سورة الإسراء. والروابط وثيقة بين هذه الأمور الثلاث: الإنسان إنسان، بحكم ما وُهبه من عقل.. ولأن الإنسان ذا عقل، فقد وُهب حرية إرادة.. ومن أجل هذا كان هو الكائن الوحيد الذى يُحاسب، فخُلقت له الجنة والنار.. العواصف والبراكين والزلازل تُخرب، وتقتل وتزيل وتحطم، ومع ذلك لا تُحاسب.. فحيث لا عقل، لا حرية إرادة، ولا يكون حساب... النار يمكن أن تحرق وتدمر وتميت، لكنها لا تُحاسب.. والإنسان لن يُحسن الاختيار إلا بقدر ما يتوافر له من معرفة.. ولن يحسن استثمار ما وُهب من عقل إلا بمقدار ما يغذيه من معرفة.. ... وهكذا تتضح لنا الصورة جلية، بغير افتعال ولا مبالغة ولا تهوين: إنسانيتك مرهونة بقدر ما يكون لك من عقل.. وعقلك لا يكون له قدر ولا قيمة إلا بالتغذية، شأنه شأن الجسم الذى لا حياة له إلا بالتغذية.. وتغذية العقل لا تكون إلا بالمعرفة، لا أية معرفة ، وإنما تلك التى تجئ بتفكير وتدبر وتأمل وخبرة وحساب، ومن هنا وجدناه سبحانه وتعالى يذكر التفكير فى كتابه العزيز(15) مرة، و" فقه " ، بمعنى فهم وفكر: عشرين مرة، وفعل التعقل (49) مرة..فليست المسألة تكديسا لمعلومات ومعارف، وإنما تحليل وتركيب وتوظيف واستنباط وتأمل.. ومن هنا وصف سبحانه وتعالى من يقفون عند حد تجميع المعلومات بأنهم أقل مرتبة من الحيوانات، فى قوله عز وجل فى سورة الأعراف: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)).. وإذا كان الإنسان سوف يُحاسَب بقدر إحسانه الاختيار بين البدائل والمتغيرات، فإن الاستخدام الصحيح للعقل يدفعه دفعا إلى الحصول على المعارف والمعلومات.. وهو لن يسير على هذا الطريق إذا انحصرت المعلومات والمعارف فى مصدر واحد، وإذا ارتبطت بوجهةنظر واحدة. وهكذا – ولن نَمَلّ من التكرار: لا يكون الإنسان إنسانا إلا إذا كان حر الإرادة، وحرية الإرادة لا تكون فاعلة إلا بقدر التغذية العقلية القائمة على التعدد والتنوع والتباين والاختلاف فى الرأى وفى الفكر، إذ هذا هو السبيل الوحيد لتنمية العقل...العلَامة الأساسية لكون الإنسان إنسانا، والجماعة البشرية التى لا تمتثل لهذه الحكمة الربانية ، أفرادها– بالوصف الإلهى- ( ...كالأنعام ، بل هم أضل)... ضع أمامك قائمتين، إحدهما للدول المتقدمة، والثانية للدول المتخلفة، سوف تلاحظ أن الكثرة الغالبة من الدول المتقدمة غير مسلمين( مسيحيين، ويهود ، وبوذيين)، وأن الكثرة الغالبة من الدول المتخلفة مسلمون...ترى : لماذا؟ ليست المسألة مسلمين وغير مسلمين... ستقول لأن الدول المتقدمة صاحبة اقتصاد متقدم وقوة عسكرية متفوقة، عكس الفريق الثانى، لكن يظل التساؤل هو : لماذا؟ إن المعيار الأساسى هو الالتزام بسنن الله فى خلقه، فقوة الاقتصاد والتفوق العسكرى، قاما على العلم، والعلم إن هو إلا وعى نظرى وتطبيقى بسنن الله فى مخلوقاته، ولا يُتأتى هذا إلا بتشغيل العقل بأقصى طاقاته.. وكيف يتوافر للعقل مثل هذا التشغيل فينتج ويبتكر ويبدع؟ بقدر ما يتوافر له من "حرية".. والحرية يستحيل أن تُنتِج فى ظلال قهر وطاغوت.. وهكذا تستطيع أيضا أن تلاحظ اقترانا بين الدول المتقدمة، وبمدى التمتع بالحرية، وبين الدول المتخلفة ، وما تعيش فيه من قهر وظلم واستبداد.. النهوض الحضارى لا يقوم إلا بإنسان...يملك الكثير من المعرفة المكتسبة بالعقل، وإرادة حرة تملك إرادة الاختيار بين بدائل ومتغيرات مختلفة.. فإذا رأيت أمة لا تتغذى إلا برأى واحد، ولا تبصر إلا من زاوية واحدة، فاعرف أنها قد عطلت العقل، وعطلت الإرادة،وتحول أفرادها إلى " أنعام" ، بل من هم أضل !! سنة الله فى خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا...