في ليلة تعد من أهم ليالي التاريخ.. ليلة امتزج فيها النور بالنور.. ليلة طاب هوؤها، ورق ماؤها وصفت سماؤها، وُلد محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) وذلك يوم الاثنين الثانى عشر من ربيع الأول. ولد ونزل ساجدًا يقدم التحية العاطرة لله رب العالمين، وكان ذلك في عام الفيل... وإننى حينما اتكلم عن معركة الفيل، فإنما أعرضها لأبعث الأمل في قلوب البائسين.. وليعلم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أنهم إذا تخلو عن نصر دين الله ورعايته وصيانته فإن للدين ربًّا يحميه.. لقد كان على رأس اليمن رجل حاقد يسمى (أبرهة) أخذته الغيرة وزحف في نفسه الحقد والحسد، لماذا يذهب الناس من شتى البقاع إلى البيت الحرام، لماذا يزورون هذا البيت العاطر في مكة.. فأراد أن يصرف الناس عن هذا البيت إلى صنعاء باليمن.. فبنى معبدًا كبيرًا ضخمًا وزيَّنه وجملَّه بأجمل الزينات وأقام له أبراجًا شامخات عاليات، وطلاها وزيناها للناظرين.. ومع ذلك لم ينصرف أحد من الناس عن بيت الله الحرام إلى معبده الجديد..!! فاشتد به الضيق (تعب نفسه وكلفها الكثير وظل يعمل فيها سنوات وسنوات ومع ذلك لم يذهب إليه أحد..) فأقسم ليهدمن الكعبة والبيت الحرام؛ ليستريح منه، فجمع جيشًا كبيرًا وتحركوا إلى مكة -شرَّفها الله- ليهدموا البيت الحرام، وركب أبرهة فيلاً ضخمًا، وعندما وصل إلى مكة وأراد دخولها وقف الفيل على أبوابها ولم يتحرك، لا إله إلا الله.. الفيل يقف لا يتحرك.. حوّله أبرهةُ ذات اليمين فتحرك، وحوّله ذات الشمال فتحول.. حوّله إلى الخلف فتحول.. أراد أن يقوده إلى الأمام فلم يتحرك.. يالله!! كيف يتحرك الفيل لهدم بيت خالقه، فالفيل يطيع الله ويسبحه (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أما البشر فيعصون الله ليل نهار. وهكذا ضرب الفيل مثلا رائعا في الوفاء لخالقه جلَّ وعلا، فالفيل ليس مؤمورًا من القيادة العامة للقوات الأبرهية، إنما هو مؤمور من القيادة العُليا للقوات الإلهية.. ووصل إبرهةُ مكةَ ماشيًا على قدميه وأصدر قرارًا يوميًّا عسكريًّا بحظر التجوال في مكة، وكان أمير مكة يومها عبد المطلب جد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهو حاكم مكة وسيدها المطاع. وأثناء تجوال قوات أبرهة في مكة عثروا على مائتى ناقة لعبد المطلب فأخذوها غنيمة، وأرسل أبرهة في مفاوضات مع عبد المطلب.. وذهب عبد المطلب لأبرهة، وقال له: أريد أبلى أريد جِمالى. فقال له أبرهة: عجبًا لك لقد كنت أعجبتنى حين رأيتك، ولقد زهدتنى فيك حين كلمتني.. تطالبنى بالإبل ولا تطالبنى بالبيت الحرام.. فقال عبد المطلب أما الإبل فهى لي وأما البيت فله رب يحميه.. وأبرهة لم يكن أمامه أي دفاع يذكر، ولم يكن يعلم أن يد الله تعمل في الخفاء، وعلى حين غفلة من أبرهة صدرت الأوامر العُليا من الله، إلى سرب من سلاح الطيران الإلهى أن يتحرك فورًا إلى أرض المعركة ولم يكن هذا السرب يحمل قنابل ذرية ولا هيدروجينية ولا عنقودية ولا فسفورية ولا حتى قنابل مسيلة للدموع، وإنما كان يحمل قنابل صغيرة صُنعت في المصانع الحربية في نار جهنم. وفي ذلك يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) استفهام تقريري، والرؤية هنا علمية لا بصرية. أي ألم تعلم يا محمد كيف فعل ربك...... لأنه لا يجوز أن تكون بصرية لأن النبي لم يكن ولد بعد. (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ) أي جماعات متلاحقة من أسراب الطير (تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي من نار جهنم بمقدار حبة العدس.. (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي جعلتهم كأوراق الشجر اليابسة.. ولذلك سُمي البيت الحرام بالبيت العتيق أي الذي اعتقه الله من كيد الظالمين. * * * في هذا الزمان ولد محمد ونزل ساجدًا يقدم التحية العاطرة لله رب العالمين، فاللهم صل وسلم وبارك عليه في الأولين وفي الآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.. فيوم أن كان طفلاً عزف عن لهو الأطفال وعن ملاعبهم وعن أسمارهم، وكان يقول لأقرانه وأترابه إذا دعوه للعب: (أنا لم أخلق لهذا). ويوم جاءته رسالة الهُدى وحمل أمانة التبليغ قال لزوجته وقد دعته لأخذ قسط من الراحة: (انقضى عهد النوم يا خديجة). ويوم فتح مكة التي آذته وأخرجته وتآمرت على قتله، وقد ملأتْ راياتُه الأفق ظافرةً قال لخصومه: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). ويوم دانت له الجزيرة العربية، وجاء نصر الله والفتح ودخل الناسُ في دين الله أفواجًا، صعد المنبر واستقبل الناسَ باكيًا وقال لهم: (من كنتُ جلدتُ له ظهرًا فهذا ظهرى فليقتد منه –أي فليجلده– ومن كنتُ أخذت منه مالاً فهذا مالي فليأخذ منه). ويوم أن كان يصلى بأصحابه وعلى غير عادةٍ منه أنهى صلاته على عجل، وهو في قمة الغبطة والنشوة مع الله، لا لشيء ذي بال؛ بل لأنه سمع بكاء طفل رضيع، كانت أمه تصلى خلفه، أنهى صلاته رحمة بهذا الرضيع.. ولقد كان يرجف، حين يبصر دابة تحمل على ظهرها أكثر مما تطيق.. * * * تمر علينا هذه الأيام ذكرى مولد سيد البشرية محمد (صلى الله عليه وسلم)، التي كانت منعطفًا تاريخيًّا وإنسانيًّا عظيمًا، حول البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، ومن الحرب إلى السلام.. إن مولده الشريف كان أهمَّ حدث في تاريخ البشرية على الاطلاقْ منذ أن خلق الله الكون، وكأن هذا الكون كان يرتقب قدومه منذ أمد بعيد.