الشعب العربي من قديم الأزل كيان واحد مهما بدا ظاهريا تفككه فهو - رغم كل مظاهر التفكك - جسد واحد تتداعى أعضاؤه مع كل ألم أو مشكلة لأي عضو فيه، ظل هكذا رغم كل محاولات التفكيك والتمزيق التي دأب عليها أعداؤه في الغرب والشرق، وجاء الفتح الإسلامي المبارك فربط هذه الأمة بأوثق رباط وهو رباط العقيدة. توالت عليه المحن وهو صامد وتعاقبت عليه صروف الدهر وهو شامخ تأرجح بين نهوض وانحطاط وصعود وهبوط ولم تتغير هويته وصبغته العربية الإسلامية، والعجيب أن موجات الصعود والهبوط كانت تطول كل مكان في هذا الوطن العظيم فالفتح الإسلامي كان متعاقبا تعاقبا سريعا في أنحاء الوطن العربي والنهوض و الازدهار أيضا بعد الفتح تعاقب سريعا في أنحائه والهبوط والانحطاط كذلك ، كذلك الموجة الاستعمارية الغربية طالت الوطن كله بعد انهيارالخلافة الإسلامية وتحلل الوطن، والهبة التحريرية أيضا كانت متعاقبة وانتقلت من بلد إلى آخر وستظل هذه طبيعة الوطن العربي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها الترابط العقدي والفكري والثقافي والوجداني والتداعي والتأثر بأي حدث يجدُّ على جزء منه. وفي العقود الأخيرة عقب الهبة التحريرية حدثت انتكاسات أصابت الجسد العربي بفعل العسكر والمستبدين ممن أستأمنهم الاستعمار على مصالحه في الوطن قبل خروجه مرغما نتيجة الكفاح الوطني المبارك. وصل هذا التحلل والانهيارإلى أوجِّه في السنوات الأخيرة التى ضغط فيها الغرب الاستعماري على عملائه لمحو كل نبته لنهوض فكري، أو وعي بأصول الحضارة العربية الإسلامية، وذلك بتجفيف كل منابع النهوض في كل المجالات فكرية كانت أو علميه او اقتصادية ومحو أي أثر لتدين الشباب . وهذا ما برز فيه الديكتاتور المخلوع( زين العابدين بن علي) حيث أبدع في محو كل مظاهر الإسلام والعروبة من تونس العربية حتى اللغة العربية تراجعت تراجعا مفزعا بين السكان. الحقيقة أن ما فعله الشعب التونسي مفخرة بكل مقاييس الاعتزاز والفخر للأحرار والمكافحين من أجل الحرية في أنحاء العالم، وما قدمته تونس الحرة من شهداء هم في أعلى درجات الشهادة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" فإن الشهادة من أجل الحرية هي من أعظم أنواع الشهادة لأن دم الشهيد يعيد الحياة لأجيال عاشت ترضخ تحت ذل العبودية والاستبداد طويلا . سيكون هؤلاء الشهداء هم أول نقطة وقود تحرق الاستبداد في الوطن العربي وتطهر منه البلاد . ولقد أجْلتْ هذه الانتفاضة المباركة بعض الأمور التي كان يحاول الطغاة أخفاءهاعن عقول الشعوب المقهورة وهي أن الاستبداد بيته أوهن من بيت العنكبوت، وأنه يتستمد جبروته وغطرسته من خنوع الشعوب واستسلامها لا من قوته وتماسكه. فضحت هذه الثورة كل المستبدين حيث أوضحت أن أول ما يفكر فيه هؤلاء الطغاة عندما يستحكم عليهم خناق شعوبهم الثائرة هو كيف ينجون بحياتهم ليتمتعوا بما نهبوه من أموال الشعوب المطحونة. ولعل مظاهر الفرحة والتهنئة التي عبرت عنها جموع الشعوب بتلقائية توضح مدي النفور والكراهية التي تكنها الشعوب العربية للمستبدين في كل مكان. ولعل تونس الآن في منتصف الطريق؛ لم تصل إلى تحقيق الحرية الكاملة ولا يكون هذا إلا بخطوات هامة يجب على الثوار أن يقوموا بها عاجلا قبل أن تنتشر الفوضي ويتباكى الناس على الاستقرار الذي كان في عهد الديكتاتور أولا: - محاولة التلاحم مع الجيش للسيطرة على الوضع وقفل الباب في وجه فلول( نظام بن على) الذين دفعتهم الصدمة إلى تصرفات هوجاء لإشاعة الفوضى ومحاولة إعادة ترميم نظام ابن على لكنهم كالثور المذبوج يخور بعنف ثم لا يلبث أن يسقط صريعا . - التأكد من تعديل الدستور بما يضمن ممارسة ديمقراطية حقيقية؛ فالمشكلة ليست في التغيير في ذاته؛ لأن الممارسة الديمقراطية ثقافة ضعيفة عند شعوبنا العريبة التي رزحت تحت الاستبداد عقودا طويلة وأول هذه التعديلات تحديد فترة الرئاسة بمدة معينة، فربما يصل حاكم إلى سدة الحكم بانتخابات نزيهة مع دستور مشوه فتكون النتيحة صناعة ديكتاتور جديد أما الحاكم الذي يعرف أنه غير مؤبد في الحكم فلابد أن يراعي مصلحة شعبه الذي يملك محاكمته على عكس أصحاب الأرصدة في البنوك الأجنبية والطائرات الخاصة المعدة لوقت الفرار بالنفس وأموال الشعب. - بعد ذلك الشعب التونسي - وهو يملك من الكوادر المثقفة- من يمكن أن يكون لهم دور هام وحاسم في القيام بحملات توعية في الفترة الانتقالية لاختيار الحاكم الذي يمثل الشعب ويحافط على الثوابت العقائدية والحضارية له، ويضمن لهذا الشعب الأبي الذي حرم من إقامة شعائره الدينية بحرية سنوات طويلة أن يعيش في ظلال دينه وشعائرة وحضارته بحرية؛ حتي لا تتكرر تجربة موريتنا التي أقيمت فيها إنتخابات غاية في الشفافية والنزاهة ولكنها أتت بالعسكرمرة أخرى؛ نتيجة قلة وعي الشعب وتفشي الجهل والأمية . ستظل هذا الانتفاضة المباركة شرارة الانطلاق لتحرير الشعوب العربية من دكتاتوريات باضت وأفرخت من سنوات واعتمدت على السكون والخنوع الشعبي وطمعت في تأبيد أسرهم في الحكم فلعل هذه الشرارة تكون البداية لاجتثاث هذه الدكتاتوريات من جذورها وسحق أفراخها، وكفاهم ما امتصوه من دماء الشعوب المنسحقة.