شرفني مؤتمر العلاقات العربية التركية الذي شهدته الكويت برئاسة الجلسة الصباحية الثالثة أمس ، والتي شارك فيها ثلاثة من المفكرين الأتراك والعرب ، وهم السيد رجائي كوتان نائب رئيس الوزراء التركي السابق والحليف الوثيق للسيد نجم الدين أربكان ، والثاني هو الدكتور برهان كور أوغلو أستاذ العلوم السياسية في جامعة بخجا شير في اسطنبول وهو يتحدث العربية بطلاقة ، والثالث الدكتور صالح الوهيبي الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي في المملكة العربية السعودية . كوتان لا يتكلم العربية ، ولكنه أعطى رؤية تاريخية للعلاقات العربية التركية وما اعتراها من مشكلات بصورة الخبير والمؤرخ والمثقف الرفيع ، وكان حديثه مفعما بالعاطفة تجاه الثقافة العربية والأدب العربي ، وكان محصلة رؤيته أن تاريخ العلاقة بين العرب والأتراك ملغم من قبل باحثين غربيين ، حاولوا أن يعطوا صورة ساذجة وسطحية لكل طرف عن الطرف الآخر ، فهناك في تركيا من يعتقد أن العرب خانوا تركيا في حربها ضد البريطانيين وطعنوها في الظهر ، وبالمقابل هناك في العرب من يتصور أن الأتراك كانوا يعادون العرب ويستغلونهم ويصورون الحضور العثماني بأنه كان استعمارا أو غزوا ، وأن هذه الصورة الساذجة تحتاج إلى تصحيح وإلى قراءة جديدة أكثر عمقا لتباينات الفكر والسياسة في الداخل التركي ، مؤكدا أن الدم التركي والعربي امتزج في حروب ومعارك كبرى كثيرة في فلسطين وفي الأناضول . البروفيسور برهان كور أوغلو قال أننا نعاني من مشكلة غياب الوعي العربي بالشأن التركي والخريطة الثقافية والأدبية والسياسية التركية الحالية ، وهناك من يتصور تركيا من المسلسلات التليفزيونية التي يتم تسويقها في العالم العربي مع أنها ليست صورة تركيا الحقيقية بكل تأكيد ، وقال أن حركة الترجمة في تركيا عن العربية نشطة جدا ، وهو شخصيا قام بترجمة أعمال فكرية عديدة لمحمد عابد الجابري وغيره إلى التركية وطبعت طبعات عديدة ، في حين أن الجانب العربي لا يهتم كثيرا بالترجمة عن التركية بمثل اهتمامه بالترجمة عن الانجليزية أو الفرنسية ، واستعرض نتائج دراسات إحصائية لاستبيانات جرت بين شرائح مختلفة من الشعب التركي عن تعلم العربية أو التقارب مع العرب أو العلاقات الاقتصادية أو الثقافية مع العرب ، وأتت النتائج متباينة لتؤكد على أن مشوار إعادة اللحمة بين الأتراك والعرب تحتاج مزيدا من الوقت بعد القطيعة التي تسبب فيها متطرفون قوميون من الطرفين على مدار مساحات زمنية طويلة. الدكتور صالح الوهيبي تحدث من واقع خبرته بالعمل الأهلي عن أن القطاع الثالث المجتمع المدني هو المؤهل أكثر من غيره لتحقيق التواصل الفعال والعميق بين الشعوب وطالب الحكومات بدعم هذا القطاع بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق تسهيلات كما يفعل الغربيون في نظم الضرائب وما شابهها ، مشيرا إلى أن العمل الأهلي في العالم العربي ما زال ضعيفا إذا قورن بما عليه الحال في أوربا أو حتى في الكيان الصهيوني الصغير جغرافيا وسكانيا . مداخلات الحضور كشفت عن آمال عريضة في إعادة جسور التواصل بين تركيا والعالم العربي وإعادة تصحيح المسار وإزالة الغبار عن الصورة التاريخية للدولة العثمانية ، وأن القواسم المشتركة بين الشعبين تمتد من التاريخ والحضارة إلى الكثير من القيم الدينية وحتى اللغوية ، وعندما تحدث المفكر التونسي الكبير راشد الغنوشي ، الذي بدا مهموما وشديد الحزن على المجازر التي ترتكب في بلاده ضد الشعب الأعزل من قبل سلطات الرئيس بن علي ، حيث وصل القتلى إلى قرابة المائة قتيل خلال أسبوع ، قال الغنوشي أنه عندما سافر إلى اسطنبول لأول مرة في حياته كان أول شيء فعله أن ذهب إلى قبر "سنان باشا" القائد العثماني العظيم ، وقرأ الفاتحة على روحه ودعا له بالخير ، لأنه صاحب الفضل بعد الله في كونه ما زال مسلما هو وآباءه وأجداده ، لأن هذا القائد التركي العظيم هو الذي سير الجيوش لدحر الإسبان والبرتغال من شواطئ تونس والمغرب العربي بعد احتلالهم لها ، حيث خططوا لتحويلها إلى أندلس أخرى ، ولولا هذا الجهاد العظيم من ذلك القائد التركي لتحول الإسلام في تونس والجزائر إلى أثر بعد عين . هناك روح جديدة بين النخبة العربية تتجه نحو الحنين إلى علاقة متكافئة وعميقة مع تركيا ، وبدون شك فإن الانفتاح السياسي والاقتصادي الذي قاده رجب طيب أردوغان في السنوات الأخيرة كان مفجرا لتلك المشاعر ومستحضرا لتراث كبير من الترابط المصيري بين الشعبين . [email protected]