وقعت أحداث كنيسة الإسكندرية على المصريين جميعا كالصاعقة، وأحسب أن أفضل ما توصف به هذه الأحداث أنها: تصرف أحمق، وترويع ممنوع، وإجرام لا شبهة فيه، وتطاول لا يرضى بشرا، إنها فعلة جبان يسر بها العدو ويتألم لها الصديق. تصرف أحمق: إن هذه التصرفات الحمقاء والتي أشبه ما تكون بأعمال صبيانية وأفعال طائشة لا يمكن أن توصف بأنها أعمال إسلامية، إذ الإسلام منها بريء، لأنه تكفل بعصمة دم الإنسان، مهما كان هذا الإنسان، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو جنسه أو لغته، ما لم يصب هو ما يباح به دمه... ولم نسمع حتى الآن ولن نسمع – إن شاء الله- عن تورط مسلم في هذا الإجرام الفج، وإنما يبحث عن أصحاب القلوب المريضة التي تريد بمصر شرا، وتضمر لها كل السوء. إن كل مسلم يراعي حدود الله يتورع كل التورع عن الوقوع في سفك مثل هذه الدماء المصونة-المسلم منها والنصراني- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المسلم:" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة" (متفق عليه)، وقال في شأن النصراني وغيره من أهل الذمة، أو بلغة العصر مواطني الدولة:" ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة " (رواه أبو داود)، وقال أيضا " من قتل معاهداًلم يَرَح ريح الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً " (رواه البخاري). إن الإسلام والحق يقال: بريء من كل من فكر أو نفذ، أو ساعد أو حرّض أو تستر على مثل هذا الأعمال الإجرامية البغيضة. عزاء مطلوب: والعزاء لأهل المصاب مطلوب، فأما المسلمون فقد ذهب جمهور الفقهاء على استحباب التعزية، ودليلهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من عزى مصابا فله مثل أجره" (رواه ابن ماجه)، وقوله أيضا:"ما من مسلم يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة"(رواه ابن ماجه). وأما غير المسلم فلا بأس بتعزيته، وقد نقل ابن القيم بعض أقوال أهل العلم فيما يقال لغير المسلم فقال: فعن هريم بن سفيان البجلي قال: سمعت الأجلح عزى نصرانيا فقال: عليك بتقوى الله والصبر، كما قال الأثرم عن منصور بن إبراهيم أنه قال: إذا أردت أن تعزي رجلا من أهل الكتاب فقل أكثر الله مالك وولدك ، وأطال حياتك وعمرك . وقال الحسن: إذا عزيت الذمي فقل لا يصيبك إلا خيرا، وقال حرب: قلت لإسحاق فكيف يعزى المشرك؟ قال يقول : أكثر الله مالك وولدك (أحكام أهل الذمة ج1 ص 204 ) . وإن كان من العلماء من منع تعزية غير المسلم، فليس معه من دليل ينهض به رأيه، أو يقوى به قوله، إذ التعزية تدخل في البر والقسط الذي أمرنا به مع من لم يقاتلنا في الدين كما حكت آية الممتحنة { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ( الممتحنة:8 )، ولئن جازت عيادة المريض غير المسلم فإن التعزية لا تقل شأنا ما لم يرد دليل بالمنع، وهذا هو الحاصل. كما ذهب بعض العلماء إلى جواز تشييع جنائزهم، قال ابن القيم: قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله (أحمد بن حنبل) عن الرجل يموت وهو يهودي وله ولد مسلم كيف يصنع؟ قال : يركب دابته ويسير أمام الجنازة ولا يكون خلفه، فإذا أرادوا أن يدفنوه رجع مثل قول عمر. قال: قلت: أراد ما رواه سعيد بن منصور قال: حدثني عيسى بن يونس عن محمد بن إسماعيل عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال: ماتت أمي نصرانية فأتيت عمر فسألته فقال: اركب في جنازتها وسر أمامها . وقد روى مثله في أم قيس بن شماس، وعلي بن أبي طالب " وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يواري أبا طالب"، وعبد الله بن عمر ، في " أم عبد الله بن ربيعة، حيث قال له: أحسن ولايتها ، وكفنها ولا تقم على قبرها". وابن عباس قال: يشهده ويدفنه، قال الخلال: كأن أبا عبد الله لم يعجبه ذلك ، ثم روي عن هؤلاء الجماعة أنه لا بأس به واحتج بالأحاديث يعني أنه رجع إلى هذا القول. (أحكام أهل الذمة ج1 ص 204). وقد رفض صاحب المنار الاستشهاد بقوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّات}(التوبة : 84 ) على تحريم تشييع جنائز غير المسلمين فقال: هو نهي عن جعل المنافقين كالمسلمين في أحكام الدين الظاهرة، والاستدلال به على تحريم تشييع جنازة الكافر أو زيارة قبره غير ظاهر ، ولم أر أحدًا من علماء السلف وأئمة الدين استنبط ذلك منها. ولكن بعض المفسرين المتأخرين رأى أن من الاحتياط عدم زيارة قبر الكافر؛ لأنه يشبه أن يكون من القيام المذكور في قوله { وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } ( التوبة : 84 ) وإن أجاز الزيارة كثير من العلماء، بل نقل بعضهم جوازها عن أكثر العلماء؛ لأنها للعبرة، والصواب أن القيام المنهي عنه هو ما كان معهودًا من القيام على القبر بعد الدفن للدعاء والاستغفار. ولا شك أنه يحرم على المسلم أن يشارك غير المسلمين في كل عمل من أعمال دينهم، وأنه يباح له أن يجاملهم فيما لا ليس من أعمال دينهم ولا مخالفًا لديننا. (مجلة المنار/ 8/150). ضبط نفس حتى لا تغرق السفينة: وبعد العزاء المطلوب فإن ضبط النفس مطلوب، تطالب به الحكومة المصرية أولا فلا تستغل هذا الحدث لتجعل منه تكئة لتصب جام غضبها على الإسلاميين -الذين جرموا هذا العمل- وتضييق عليهم الحريات التي ضاقت منذ زمن بعيد، فتجمع تعنتا إلى تعنتات سابقة؛ ملّ منها الصغير والكبير، والذكر والأنثى والعالم والأمي، والقومي والإسلامي، و السلفي والإخواني... وغيرهم. كما أن النصارى بكل أطيافهم مطالبون بضبط النفس كذلك فلا يحملون الأكثرية المغلوب على أمرها ما لا ذنب لها فيه، ولا يجعل هذا الحدث الفرصة سانحة لبعض النصارى ممن يطلق عليهم (أقباط المهجر) ومن سار في فلكهم في داخل مصر فيجعلوا منه تكأة للاستقواء بالخارج تحت مسمى رفع الظلم عن الأقلية المضطهدة حسب زعمهم. إن أمن المنطقة العربية كلها منوط بأمن مصر، وأمن مصر منوط بوحدة أبنائها من المسلمين والنصارى، وإذا كان فيرس التقسيم والتفتيت قد بدأ بالظهور في جنوب مصر، وأعني به السودان الذي سيقسم إلى شمال وجنوب، فإن تقسيم مصر والذي يسعى له الكثيرون من أعداء هذه الأمة -والذي حذر منه المخلصون من أبناء هذه الأمة من أمثال: جمال حمدان، وجمال عبد الهادي- يعد قاصمة الظهر للأمة العربية والإسلامية على السواء، ولهذا فإن الحكومة مطالبة بنزع فتيل هذه الفتنة، وذلك بحماية المسلمين الجدد من اضطهاد الكنيسة من أمثال (وفاء قسطنتين، وكاميليا شحاتة)، ولجم الألسن المتطاولة على الإسلام ونبي الإسلام وكتاب الإسلام، من خلال الفضائيات التي يمولها بعض أثرياء النصارى في الخارج، وبعض أثريائهم في الداخل كذلك، وفي المقابل إعطاء النصارى ما لهم من حقوق، وإن كنت أحسب أنهم يوفون حقهم أكثر من شركائهم في الوطن (المسلمون) الذين يمثلون الأكثرية في وطننا الغالي مصر. اللهم بلغت اللهم فاشهد.....