ما يتشكل في مصر اليوم، ويُراد له أن يستمر، ليس له مكان في باب الحريات، ولا في باب الديمقراطية. الدول والمجتمعات والشعوب ليست قطع بازل يركبّها المستبد على مزاجه، وليست قطع شطرنج تحركها القوى العظمى في الدولة كيفما تشاء، والقوى العظمى في الدولة هي: من يملك السلاح. ويوجه رجال الأعمال. ويتحكم في الإعلام، ويفتح الصندوق الأسود لمن يفتح فمه. ما يتشكل في مصر اليوم، وبكل وضوح ولا كلام ساكت ولا كلام حمّال أوجه هي: دولة قمعية استبدادية لا مكان فيها: للديمقراطية. ولا للحريات العامة. ولا لحقوق الإنسان، ولا حتى لحقوق الحيوان. هي دولة أمنية بوليسية تستأسد في الداخل على: الضعيف، والصغير، ومن لا ظهر له -وطبعا الشعب كله ضعيف، وصغير، ولا ظهر له، سوى أتباع السيسي-. وتستأسد في الخارج على الدول الصغيرة التي لا تملك إزائها شيئا. قارنوا مقارنة سريعة بين سلوك تلك الدولة القمعية تجاه قطر (وأنا لا أؤمن لا بقطر ولا بجزيرتها، وأنا أعلم أنه مواقفها ليست لوجه الله، وإنما لمصالحها) وبين سلوك تلك الدولة القمعية تجاه التصريحات الأخيرة لمحمد بن راشد عن رغبته في عدم ترشح السيسي للرئاسة. أنظر كيف بلع الجميع ألسنتهم، وأنظر كيف سكتت الأبواق الإعلامية التي تعزف من نوتة واحدة. لا سحب سفير، ولا استدعاء سفير، ولا الفرقة 777 ولا 688. الدولة القمعية التي تمسك زلاّت على مواطنيها لتكسر أعينهم، وتبتزهم بما قد سجلته لهم أو صورتهم لهم، ثم تسلّم تلك التسجيلات المجرمة إلى (أوطى) واحد من صبيانهم ليلعب بها. هل هذه دولة؟ أم سلوك عصابات تعمل خارج دائرة القانون؟ ما يحدث في مصر ويُراد له أن يستمر: لن يفتح أفاق الاقتصاد. ولن تتحرك به عجلة الانتاج (هذا لو كان فيه عجلة أصلا، إنما نقول مثلما يقولون). ولن تستقر البلد. ولن يقضى على الفوضى الأمنية، التي فاقت حدود السيطرة، وفاقت حدود التصور. فالمفاوضات الأن تتم بين المجرمين والمسجّلين خطر بعد سرقة الشقق أو السيارات تحت رعاية وإشراف أقسام البوليس، وذلك بعد أن صار الجيش والشرطة والبلطجية إيد واحدة. ولدينا من الحوادث والحالات ما يفوق الحصر. وستدفع الدولة من شرفها ونزاهتها بقدر ما استعانت بالبلطجية الذين يسميهم إعلام العار المواطنين الشرفاء في مواجهة المواطنين الشرفاء الحقيقيين الذين يخرجون للتظاهر بصدور عارية في مواجهة آلة بطش وحشية. لقد رجعت الشرطة تنتقم من الشعب، وتثأر من هزيمتها في 28 يناير يوم أن انكسرت في مواجهة الفيضان الشعبي الذي خرج يطلب التغيير والإصلاح. والشرطة تتعامل مع المواطنين كمن له تار بايت معهم، حتى مع الناس العاديين الذين ليس لهم توجهات سياسية. ما يتشكل في مصر الآن دولة قمعية فاشية، فاشية حقيقية باسم الوطن الجريح السليب، وليست فاشية الإخوان المزعومة. هذه الدولة القمعية تجاوزها الزمن، ولن تملك مقومات البقاء بعد أن كسرت الناس حاجزي: الخوف والصمت. دعك من الإخوان ربما كانت عندهم قضية (عادلة أو ظالمة في مواجهة نظام السيسي) إنما هذا الشعور تسرب إلى عموم الناس ممن هم غير مسيسين، وهذا مكمن الخطر. من انتهك عرضه لن يسكت، وإن صبر على الظلم قليلا. ومن أُهين لن يسكت، وإن تحمّل بفعل بطش الآلة القمعية الوحشية. ومن رأى الموت هان عليه كل شيء. هذا الغضب المختزن هو ما نحذركم منه، ليس حرصًا عليكم، بل حرصًا على هذا البلد الطيب أهله وناسه. الدولة القمعية دولة خارج سياق التاريخ، دولة متخلفة يقودها مغامرون لا يؤسسون لدولة مؤسسات. الدولة القمعية دولة لا تحمل مقومات البقاء في عالم الدول. أنظروا كيف تعاملوا في استفتاء الزور مع من قرر المشاركة والتصويت بلا، لقد خسروا بفعل غباء العقل الأمني الذي قبض على مجموعة من شباب حزب مصر القوية يعلقون بوستر "لا للدستور" فقرر الحزب المقاطعة. والدولة القمعية دولة تخسر من يوافقها جزئيا في بعض ما تقوم به، لأنها لا تقبل إلا الاستسلام التام، أو الموت الزؤام لمن يخالفها قيد أنملة. الدولة القمعية لن تستمر في مصر، ولن يكتب لها البقاء. وأنتم يا من تقودون هذه الدولة القمعية، تفكرون بعقلية نظام مبارك، ولم تتعظوا مما جرى له، صحيح أنكم قدمتم له حماية أو ضحيتم برأس النظام ليستمر النظام، لكن حتى هذه الحماية التي قدمتموها لمبارك ربما كان من العسير أن تتوفر في قابل الأيام. لقد تعلمت الناس من التجارب، بل صهرتها التجارب. من يزرع الكراهية، لن يجني إلا العلقم. ومن يزرع الخراب، لن يجني إلا الهلاك. الدولة القمعية في مصر ولدت ميتة بعد ثورة 25 يناير، لأن أهم مقومات استمرارها هو استعداد الناس لقبول القمع، وهذا ما لم يعد موجودًا. القابلية للقمع هي أهم شروط استمرار القمع. ولا يغرنكم سكوت الناس. انظروا ماذا فعلتم بقانون التظاهر؟ أو ماذا فعل لكم قانون التظاهر؟ أنظروا إلى الجامعات التي تشتعل، حتى الأزهر بل الأزهر فاقها جميعًا. ولا تظنوا أن الشعب سيصمت طويلا. فالشعوب لديها من الحكمة والوعي وإدراك السنن وقوانين الاجتماع فتعرف متى تتحرك ومتى تثور. فلا يغرنكم هدوء البحر، فإنه غدّار أو ثوّار، وربما كان الهدوء الذي يسبق العاصفة. ولتعلمن نبأه بعد حين.