قبل أسابيع بث تنظيم القاعدة في بلاد العراق تهديدات توعد فيها باستهداف الكنائس القبطية المصرية ردًّا على ما أسماه البيان احتجاز أسيرات مسلمات في الأديرة والكنائس القبطية. وقال التنظيم – حينها – في تسجيل مصور منسوب إلى "مقاتل" يقود مجموعة انتحارية، ويهدد بدوره الكنيسة القبطية في مصر، بسبب زوجتي الكاهنين المعتقلتين (كاميليا شحاتة، ووفاء قسطنطين) على حدّ وصفه، وقال: إنه إذا لم يُلَبِّ الأقباط مطلب التنظيم؛ فسيفتحون على أبناء مِلّتهم بابًا لا يتمنونه أبدًا، ليس بالعراق فحسب؛ بل في مصر والشام وسائر بلدان المنطقة؛ فلديهم عندنا مئات الآلاف من الأتباع ومئات الكنائس، وكلها ستكون هدفًا لنا على حد تعبيره. وبعد حوالي شهرين وقع الانفجار الدامي الذي هزَّ مدينة الإسكندرية ليلة الاحتفال برأس السنة الميلادية، وذلك أمام كنيسة القديسيين بمنطقة سيدي بشر، مما أسفر – حتى وقت كتابة هذه السطور- عن اثنين وعشرين قتيلًا، إضافة إلى عشرات المصابين. وقد تضاربت الأنباء حول الكيفية التي تم بها الحادث؛ ففي الوقت الذي ساد فيه اعتقاد منذ اللحظات الأولى لوقوع الانفجار بأن السبب الرئيسي له ناجم عن انفجار سيارة مفخخة، صرح مصدر أمنى بعدها بأنه لم يتم العثور على نقطة ارتكاز للانفجار، مما يرجِّح بأن الانفجار ناجم عن عملية انتحارية. إدانة واسعة إلى غير ذلك، فقد نددت جميع الأطياف السياسية والقوى الإسلامية والحزبية بالحادث، والذي اعتبرته موجهًا إلى المجتمع المصري بأسره ووحدته، وليس موجهًا إلى أقباط مصر فقط. فمن ناحيته أدان الرئيس المصري حسنى مبارك الحادث وبشدة عبر بيان متلفز قال فيه: "لقد هزَّ هذا العمل ضمير الوطن، وصدم مشاعرنا وأوجع قلوب المصريين، مسلمين وأقباطًا، وامتزجت دماء شهدائهم على أرض الإسكندرية، لتجلو لنا أن مصر هي المستهدفة، وأن الإرهاب الأعمى لا يفرق بين مسيحي ومسلم". وأكد مبارك على أن الأمن القومي مسئوليته الأولى، وقال: "إنني أؤكد لكل المصريين أن كل المخططات ستفشل في زعزعة استقرار مصر أو النيل من وحدة المسلمين والأقباط، وأن أمن مصر القومي مسئوليتي الأولى، ولا أسمح لأيٍّ كان المساس أو الاستخفاف بأرواح شعبها". وتوعد مبارك بملاحقة مرتكبي الحادث، وقطع دابر الإرهاب كما أسماه. ومن ناحيته أدان الإمام الأكبر د./ أحمد الطيب شيخ الأزهر، الحادث، واعتبره موجهًا إلى جميع المصريين، وتمنى ألا يؤثر الحادث على العلاقة الطيبة التي تربط بين المسلمين والأقباط في مصر. أما دار الإفتاء المصرية فقد أدانت الحادث، وطالبت جميع المصريين بضرورة التكاتف والوحدة والتآلف لمواجهة هؤلاء العابثين بأمن مصر ووحدة شعبها. ودعا الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية - في بيان له السبت - جميع المصريين إلى التعقل وعدم الانسياق وراء الشائعات، والترابط والتماسك ودحر الفتنة، حتى لا يصل المغرضون إلى غايتهم بالوقيعة بين أبناء الشعب المصري الواحد. وأشار البيان إلى أن مفتي الجمهورية وجميع علماء دار الإفتاء يدينون ويستنكرون بشدة هذا العمل الإجرامي، الذي استهدف المواطنين الأبرياء والآمنين من المسيحيين والمسلمين في محاولة خسيسة منهم لإشعال نار الفتنة بين أبناء هذا الوطن، معربين عن مواساتهم لأسر الضحايا والمصابين، ومتمنين للجرحى الشفاء العاجل، ولمصر وشعبها العظيم دوام الأمن والاستقرار. ومن جهة أخرى، فقد أدانت الجماعة الإسلامية المصرية الحادث، وقالت في بيان لها عبر موقعها الالكتروني حمل عنوان "تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية.. إدانة واجبة لجريمة آثمة": "تدين الجماعة الإسلامية بمصر جريمة التفجير التي وقعت أمام كنيسة القديسين بالإسكندرية، والتي راح ضحيتها أرواح بريئة مسيحية ومسلمة". وترى الجماعة الإسلامية أنه لا يمكن قبول أي تبرير لهذه الجريمة، أيًّا كان الفاعل الذي يقف وراءها.. لأنها جاءت مخالفة لكافة الأديان السماوية وأحكام الشريعة الإسلامية.. وكل قيم العدل والإنصاف والأخلاق النبيلة. فلا يمكن لأي عاقل متزن يعرف المبادئ الأولى من دين الإسلام وشريعته السمحة إلا أن يقول: "إن ما حدث أمام كنيسة القديسين من تفجيرات أودت بحياة العديدين يعدُّ جريمة لا يقرها شرع ولا يوافق عليها دين". وتحت عنوان: "بيان من الإخوان المسلمين حول الحادث الإجرامي الأخير أمام كنيسة الإسكندرية"، أدانت جماعة الإخوان المسلمين الحادث، وقالت في بيانها على موقعها الالكتروني: "إن الإخوان المسلمين وقد هالتهم الجريمة البشعة النكراء التي استهدفت كنيسة القديسين بالإسكندرية يعلنون استنكارهم الشديد وإدانتهم الشديدة لتلك الجريمة الخطيرة". كما حذرت الجماعة من التطور النوعي في العمليات الأخيرة وقالت: "لقد حملت تلك الجريمة تطورًا نوعيًّا، وجاءت في سياقٍ مريبٍ يستهدف مع حرمة وأمن الوطن تمزيق نسيجه الاجتماعي والترابط الذي يجمع كل أبناء هذا الوطن على اختلاف أديانهم على مرِّ القرون، وزرع الفتنة في أرجاء البلاد؛ الأمر الذي يستوجب التيقظ للمؤامرات التي تُحاك لوطننا العزيز، وتفرض على جهات التحقيق النظر في كل المجالات والاحتمالات والبحث عن الجهات صاحبة المصلحة في إثارة العداوة بين أبناء الوطن الواحد.....". كما أدانت حركة حماس في قطاع غزة، الحادث. من يقف وراء الحادث؟ الدلائل الأولى تشير إلى تورط تنظيم القاعدة في الحادث، خاصة مع تأكيد المسئولين المصريين على ضلوع جهات خارجية في الحادث، وعلى رأسهم الرئيس مبارك في بيانه المتلفز إلى الشعب المصري عقب الحادث. فالقاعدة سبق لها تهديد الأقباط، وتوعدت بشن المزيد من الهجمات ضد الكنائس القبطية، بسبب ما أسماه التنظيم احتجاز الأسيرات المسلمات في أقبية الكنائس، وهي القضايا التي تفجرت في مصر بعنف منذ احتجاز الكنيسة المصرية للعديد من النساء اللائي أعلن إسلامهن، وعلى رأس هؤلاء وفاء قسطنطين، وكاميليا شحاتة. كما أن أسلوب التفجير والمواد المصنعة فيه - كما تشير التقارير الأولية المنشورة – تحمل بصمات القاعدة، من حيث التخطيط والتنفيذ، وهو ما يعرف بالتفجيرات العشوائية التي تستهدف ضرب التجمعات الكبيرة من أجل إسقاط أكبر عدد من الضحايا، كما حدث في تفجيرات الرياض وبالى ولندن ومدريد وغيرها. وتنظيم القاعدة يعتمد في تنفيذ عملياته على العناصر المحلية، والتي غالبًا ما ترتبط به فكريًا أكثر منه تنظيميًا، وذلك عبر الفضاء الالكتروني الذي تسمح به شبكة الانترنت، والذي أوجد للقاعدة مساحة حركة خاصة بين أوساط الشباب صغير السن، والذي يفتقر إلى الرؤية الشرعية السليمة والنظرة الواقعية السديدة، مستغلًا في ذلك حالة الإحباط التي يعاني منها معظم الشباب العربي، نتيجة إخفاق مشروعات الإصلاح وعدم قدرة النظام العربي الرسمي على حل قضاياه المتوارثة والمستجدة، خاصة في فلسطين والعراق. إضافة إلى الضغط الذي تمثله السياسات الأمريكية الجائرة تجاه المنطقة العربية وقضاياه الملحة، خاصة في مواجهة الصلف الصهيوني في فلسطين. ففي وسط هذه الأوضاع المأزومة يجد تنظيم القاعدة لخطابه رواجًا بين الفئات المحبطة والمهمشة والأقل ثقافةً وعلمًا. خاصة مع غياب الجهد المنظم لمواجهة القاعدة على مستوى الفكرة بعد أن اعتبرت كثير من النخب العلمية والهيئات والجماعات الإسلامية أن مواجهة القاعدة هي مواجهة عسكرية أمنية وفقط دون النظر إلى المواجهة الفكرية الشرعية التي هي بمثابة تجفيف منابع التنظيم ومحاصرة لتمدده غير الطبيعي. مواجهة القاعدة ضرورة الوقت لا أدرى كيف تجاهل عقلاء الأمة وعلماؤها مواجهة القاعدة على مستوى الفكرة، خاصة مع تمدد خطابها، فما زالت الجهود فردية، أذكر منها هنا ما يقوم به الداعية الإسلامي الكبير د./ سلمان العودة من مواجهة فكر القاعدة، والتحذير منه عبر برامجه المتلفزة وأحاديثه الصحفية.... وفي مصر تقف الجماعة الإسلامية تقريبًا بمفردها في مواجهة خطاب القاعدة، وذلك للأسباب التالية: 1. استشعار قادة الجماعة أن تصرفات القاعدة ستقود العالم الإسلامي إلى مواجهة غير محسوبة العواقب مع العالم الغربي. حيث يقول د. ناجح إبراهيم في كتابه "تفجيرات الرياض": "ولقد أدخلت الحادي عشر من سبتمبر الحركات والدول الإسلامية وكذلك العربية في مواجهة لا يريدونها ولم يستعدوا لها، ليس مع أمريكا فحسب، ولكن مع العالم كله تقريبًا، وكذلك تفجيرات الرياض وضعت الدول والإسلاميين والدعاة في مأزق شديد، لا يدرون كيف سيخرجون منه أو يتصرفون فيه". 2. إحساس قادة الجماعة الإسلامية بالمسئولية تجاه أوطانهم، خاصة وقد ذاقوا ويلات الصدام، وعرفوا أضراره البالغة على الأصعدة كافة، فلم يشاءوا أن يكتفوا هنا بدور المتفرج والنيران تمتد من حولهم لتأكل الأخضر واليابس، وهنا يقول الشيخ عاصم عبد الماجد في لهجة واضحة وحاسمة ولا تخلو من مرارة وأسى: "ليس المطلوب من أهل الدين والعلم مجرد تبرئة الذمة ببيان مقتضب عن عدم المسؤولية، فهم معنيون أكثر من أي شخص آخر بمستقبل هذه الأمة والمصالح العليا لها، وهم المعنيون قبل غيرهم بتقويم أخطاء «القاعدة» وكفها عن الاسترسال فيها، وتبصيرها بعواقب الاستمرار في نهجها المدمر، وتبصير غيرها بمخاطر ذلك وأخطائه، حتى لا ينساق آخرون وراءها". 3. محاولة قادة الجماعة تضييق الخناق على متطرفي الفكرة العلمانية، والذين كانوا يرون في احتدام العمليات القتالية فرصة مواتية لحث الدولة على استئصال شأفة الحركة الإسلامية والقضاء على كل مظهر إسلامي بحجة تجفيف المنابع، وهذا الفريق تحديدًا آلمه وبشدة توقف عمليات العنف في مصر، فكان لزامًا على الجماعة الإسلامية أن تتحرك لمحاصرة ثقافة العنف، والتي قد تفد على البلاد عقب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، وتوابعها في الرياض وبالى والدار البيضاء... وما حدث في كنيسة القديسيين في الإسكندرية ستكون له آثاره السلبية على الدعوة الإسلامية إذ بدأ متطرفو اليسار المصري وغلاة العلمانية في الدعوة إلى تجفيف المنابع ومحاصرة التدين في المجتمع المصري.. بل دعا د. رفعت السعيد – رئيس حزب التجمع الشيوعي – في مداخلة له مع التليفزيون المصري عقب الحادث إلى اجتثاث الظاهرة من الجذور، في خلط بين ظاهرة العنف والإرهاب التي أدانتها القوى الإسلامية كافة وبين ظاهرة التدين التي تعتبر إحدى القوى الدافعة في المجتمع المصري، وما بدأه رفعت السعيد لن يتوقف، بل سيكون هو الشغل الشاغل لمتطرفي اليسار والعلمانية الذين جاءتهم الفرصة على طبق من ذهب. فهل أدرك عقلاء الأمة الآثار الكارثية لخطاب القاعدة؟ وهل آن الأوان للتحرك بجدية لمواجهته حماية للأمة وشبابها؟. أم سنكتفي فقط ببيانات يضيع أثرها فور الانتهاء من قراءتها؟ المصدر: الاسلام اليوم