اختُتمت في أبو ظبي القمة الخليجيَّة الحادية والثلاثين وكان مؤشرًا مهمًّا أن القمَّة تعود إلى أبو ظبي هذه المرة بعد ثلاثة عقود من انطلاقتها في المؤتمر التأسيسي، وهو ما أعطى بعدًا مختلفًا عن المرَّات السابقة التي عُقدت القمة فيها قبل ذلك, لكن البيان الختامي ورتابة الأجواء البيروقراطيَّة وعدم القيام بأي مبادرة نوعيَّة تجاه تحريك الملفات المعقَّدَة كالخلافات الثنائيَّة أو الموقف من العملة الخليجيَّة وتحفظ الإمارات وإعادة تقييم الدبلوماسيَّة الخليجيَّة من الموقف من تطورات العراق وأزمة إيران النوويَّة وخاصة بعد حشد التسريبات التي ملأت أجواء المنطقة, كل ذلك يؤكِّد الوضعية الحرجة لمستقبل مجلس التعاون الخليجي. وفي ظلّ هذه التركة الثقيلة التي يستعد فيها السيد عبد الرحمن العطية الأمين العام تسليم البحريني عبد اللطيف الزياني الأمانة تبدو مهمَّة اللواء الزياني دقيقةً للغاية, خاصةً أن مؤشرات التوتر في المنطقة تُسجل أعلى حالاته منذ العدوان الأمريكي على العراق وغياب الأفق المشترك لوحدة الموقف الخليجي من القضيَّة الإقليميَّة الكبرى وتعثُّر مسيرة المجلس الوحدويَّة, إضافةً إلى الأوضاع الداخليَّة لدول المجلس التي تعزّز فيها القمع وتقليص المشاركة الشعبيَّة وسقوط ربيع الإصلاح الموعود، والتي بلا شكّ يحتاج الأمين العام الجديد أن يجعلها ضمن ثقافتِه اليقظة كي يستبينَ الحراك الممكن لدفع دول المجلس إلى حركة توازن تبعدها ولو نسبيًّا عن مركزيَّة الاستقطاب المحوري, حتى تتحدد رؤاها المصلحيَّة المشتركة وأمنها القومي الذي يجب أن يَعبر بين المضيق الشديد التعقيد لواشنطنوطهران, وأنّ دلائل خطورة الارتهان التطوعي بأحد المحورين يؤشّر إلى تكاليف باهظة على الأمن الخليجي تصل إلى تغيير خارطته كليًّا. إذن ليست هي مساحات خيارات ولكنها ضرورات قصوى في المحكّ الأمني والاستقرار السياسي, ولسنا هنا نطرح قواعد تغيير شاملة، لكننا نتحدث عن مساحة نسبية مفقودة في العمل الخليجي لو استطاع السيد الزياني أن يُحرّكها إلى الأمام سيبدو له ميدان مهمّ لمعالجة ثغرات الاختلاف البارزة بين العواصم الخليجية على مستوى الأمن القومي أو المشاريع المشتركة. إن هذه الاستراتيجيَّة تقوم على قاعدة مهمَّة من تقديرات الموقف المُعقّد، وبالتالي فهي تتوجَّه إلى حلحلة بعض الأمور وتنظيم أجواء إيجابيَّة فيها بعملٍ مباشر عوضًا عن الاكتفاء بأحاديث العلاقات العامة التي صبغت المراحل السابقة وكانت تُغطي الخلافات الخليجيَّة بالإعلانات العامة والبيانات الرئاسيَّة الفضفاضة دون تطبيقات فعليَّة على الأرض باستثناء متطلّبات المشروع الأمريكي المضرّ لأمن الخليج العربي، وليس فقط استنزاف اقتصادِه, وبالتالي فإن الواقع السياسي والتنموي والمصالح السياسيَّة المشتركة ينخفض مستواها في ظلّ برنامج المجاملات الموسمي الذي يكتنفها إلى أدنى حدّ. وليس المقصود رفع حدَّة التصريحات في عمل الأمانة العامَّة، لكن المطلوب النزول إلى أرض الواقع وملاقاة الخلافات الثنائيَّة وحلّ إشكالاتها تمهيدًا لتحقيق برنامج أفضل للدورة الجديدة لمجلس التعاون, وأن من المهمّ للأمين العام أن ينقل حجم التراجع والانحسار للآمال الشعبيَّة لقيادات الدول وشخصياتها الرئيسيَّة, وأن يسعى للَفت انتباههم بأن مداومة التوجه الذي بات يستقرُّ في الساحة الخليجية بأن المجلس علاقات بين مؤسسات حكم لا دول مدنية ومؤسساتها وشعوبها هي في ذاتها نقضٌ لأساسيات نجاح هذا المجلس وتحقيق رابطته التي تضمن أمنه بوحدة شعوبه لا بتفرقتهم. الحوار الخليجي -الخليجي ورغم أنّ ثقافة الدعوة إلى الحوار إقليميًّا ودوليًّا وعربيًّا تهيمن على سماء الخليج العربي إلَّا أنَّ الحوار المركزي الأهم وهو بين دول المجلس لا يُطرح مطلقًا ضمن آليات عمل الأمانة العامة ونقصد به الحوار الثنائي بين أعضاء المجلس رغم أنّ هناك إمكانيَّة كبيرة لصياغة سقف مشترك للانطلاق عبره للأزمات التي تطرأُ على العلاقات الثنائيَّة لتشكّل قاعدة معالجة لاختلافات دول المنطقة. وقد كان لتعثُّر مشروع المحكمة الخليجيَّة دورٌ في إبقاء أو تطور هذه الخلافات, لكن ليس بالضرورة أن تُحلَّ كل الخلافات عبر المحكمة إضافةً إلى أنّ ملخصات الحوارات الثنائيَّة يقود إلى تحييد قضايا الخلاف والصراع السري بين أعضاء المجلس في مساراتٍ مختلفة لا تتعارض رؤاهم فيها, في حين أنّ ما يجري حاليًا يشير إلى أنّ الأزمات قد تتمدد إلى قضايا أخرى بسبب استمرار هذا الخلاف الذي يتصاعد بلا مبرِّر ثم يأخذ منحًى معنويًّا وثقافيًّا ينتقل للرأي العام للدولتين المختلفتين في صورة جدل إعلامي غير لائق لرابطة المجلس الخليجي. إن هذه الخلافات مهما استدعت قضايا صراع تاريخيَّة فهي ستبقى أقلَّ بكثير من إمكانيَّات التلاقي والتنسيق ووضع دوافع القلق على الطاولة بين الشقيقين الخليجيين, مع أهمية أن يدرك المختلفان أن التنسيق بينهما خير من اللجوء المستمر للحليف الدولي المشترك والصراع لتعزيز الجسور معه مقابل امتيازات مجانية إضافيَّة تقدم له، وقد أوضحت تسريبات ويكيليكس حجم انعدام الثقة بين أعضاء المجلس من خلال تشكيهم للمرجعيَّة الأمريكيَّة وأحيانًا تحريضهم على بعضهم, في حين أنّ إمكانيَّة التواصل ومعالجة الخلاف مع الشقيق الخليجي ستعطي فضاءات أكبر لتحقيق هذه المعادلة من ثنائية العلاقات المهمَّة للمصالح المشتركة في إطار مباشر بين الأطراف الخليجيَّة. إن النماذج العديدة لتسريبات ويكيليكس هي قضايا متعدِّدة لكن يهمني إشاراتٌ محددة تشير إلى أنّ هذه النماذج تؤكِّد المنظور الرؤية السلبيَّة المستهينة لمنظور الدبلوماسيَّة الأمريكيَّة للدبلوماسيَّة الخليجيَّة، والتي وردت في تعليقات الدبلوماسيين، والتي كانت تعطي دلالة على النظرة المحتقرة للمسئول الأمريكي تجاه طلبات دول المجلس لمواجهة هذا الطرف أو ذاك، وكانت تؤكد على أن الخليج خارج اللعبة تمامًا وأن واشنطن لا تنظر لدول الخليج العربي على أنها شريك محوري، بل تابع هزيل لا يستطيع أن يشكل أي رديف مستقل أو متوازن مع إيران، وقد برز ذلك في رفض واشنطن الأخير لإلحاح الأطراف الخليجية في حوار المنامة إشراكها في الحوار الأمريكي الإيراني, وهو ما يعيد التذكير بقوة بأن العلائق المباشرة التي تُطرح في برنامج حواري تتقدَّم فيه الأمانة العامة أفضل وأسلم من انتظار صعود أسهم هذا الطرف أو ذاك في ميدان التنافس الاقتصادي أو السياسي لدول المجلس وإهالة كمّ كبير من المجاملات على تلك الخلافات دون السعي لمناقشتها بهدوء والتوصل لحلحلتِها ودفع البرنامج الحواري إلى تحجيم هذا الخلاف إلى أدنى حدٍّ. التنوُّع بدل التضاد إن تباين تقديرات الموقف لتطورات أوضاع الخليج الإقليميَّة يتصاعد بصورة مضطردة دون ضابط ولم يعد الأمر يخصُّ دولة دون الدول، بل يكاد الخلاف يشطر المجلس ومنظور كل دولة وفقًا لتقدير وضعها السياسي المحلي في عُزلة عن باقي الأقطار, هذه هي الممارسة العمليَّة المنظورة واقعيًّا على الأقل, ودول المجلس بحاجة ماسَّة إلى تنظيم اختلاف تقديراتها عبر قاعدة الأمن الجماعي الذي يؤثِّر عليهم جميعًا, وهو قاعدة أمنيَّة حين تستقلُّ ولو بقدرٍ نسبي عن الضغوط الدوليَّة ستستطيع أن تصل إلى منهجيَّة وسطيَّة معتدلة تعزل أمنها عن طموحات الضربة العسكرية الإسرائيليَّة الأمريكيَّة لإيران أو مواسم أجوائها التي تُصعدها واشنطن وتل أبيب لأهداف استراتيجيَّة في الخليج العربي وإن لم تتمّ, ولا يمكن أن يشكَّ عاقل بأنها قد تندفع لأفق خطير على أمن وخريطة المنطقة. في حين يُشكِّل هذا التنوع حين مداولته في أجواء ثقة ومسئولية حالة توافق من جهة أخرى للقاعدة الفكريَّة والأمنيَّة التي تحتاجها دول المجلس وحراكها المستقلّ لتحجيم التدخل الإقليمي في دولها وجوارها العربي بصوتٍ منضبط وتخطيط هادئ لكنّه أكيد, ولا يمنع حين تقوى وحدته الذاتيَّة من محاورة طهران لا كمواسم علاقات عامة تروجها طهران لذاتها السياسية لكن كجدول متطلبات متبادل لمصالح دول المنطقة قبل أي بعد دولي آخر, المحصلة أنّ نوافذ الحوار بين أقطار المجلس حول السياسية المشتركة خارج الأجندة الأمريكيَّة لن تكون خسارةً، بل هي ربح على المستوى الثنائي والقومي, وإن بقيت المعالجات نسبيَّة فهي أفضل من ترك الخلافات والاختلافات للحظة التي يبعثر فيها الخصوم ما تبقى من مجلس التعاون للخليج العربي. المصدر: الاسلام اليوم