يقولون إن الصدفة تصنع السياسة عند المغفلين فقط، أما أهل الوعي بالتواصل المستمر لحركة التاريخ عبر مسارات المصالح والمؤامرات فيختلف الأمر قليلاً، فالسياسة عندهم لا علاقة لها بالصدفة البتة، السياسة عندهم محض تفاعل وتشابك وتداخل وتأثير وتأثر بين ما هو ظاهر من الأحداث وشروحاتها التى لا تكف عن السيلان التفسيري المعلن لبسطاء الناس بالوسائط الإعلامية الجبارة لمداهنتهم ومداراة خيبتهم وهدهدة غضبهم.. وبين ما هو خفي من الأحداث وتفاعلاتها التى لا تكف عن استبطان التفاصيل قبل العناوين فى تطورها وتكييفها وفق الغايات والمرامي والمصالح القريبة والبعيدة. وبوسع الراصد للأحداث المتزن بين الأطراف المتجاذبة أن يربط بين ما يحدث فى مصر الآن وبين ما يحدث فى تركيا مما تحمله لنا الأخبار، ولن أضع تصورات شططية فى إلحاق التحول الدراماتيكي الإيراني "الشيعي" باتجاه الغرب بما يحدث فى هذين البلدين الكبيرين "السني".. قد يكون لهذا وقته الذى لم يحن بعد تكشف كل مجالات رؤيته. و"المسألة التركية" لها اهتمام قديم لدىَّ، وكنت قد كتبت دراسة مطولة عن تطور الحالة التركية بعد الفوز التاريخى لحزب العدالة والتنمية فى تركيا عام2007م فى مجلة "وجهات نظر" التى تصدرها دار الشروق.. وكان طبيعيًا أن أهتم بما يحدث فى تركيا الآن وصلاً بما كان من قبل.. وأيضًا لأننا فى "الشرق" كما قال شوقي: قد قضى الله أن يؤلف الجرح ** وأن نلتقي على أشجانه نحن بالفقه بالديار سواء ** كلنا مشفق على أوطانه شوقي كان قد نعى سقوط "أبر علائق الأرواح".. الخلافة الإسلامية كما سماها.. فى قصيدة من أروع قصائده تبكيك دموعًا ودمًا يقول فى أولها: "عادت أغاني العرس رجع نواح**ونعيت بين معالم الأفراح". وتوعد المسلمون بعدها بمستقبل مضطرب "ولتشهدن بكل أرض فتنة ** يباع فيها الدين بيع سماح"..وقد كان. لكن شتان بين جرح وجرح يا "أمير القوافي" فجرحنا هنا غير جرحهم هناك.. جرحنا فى جسد منهك ممروض وجرحهم فى جسد عفي صحيح.. ذلك أنهم فى تركيا كانوا قد خاضوا المعركة الأطول والأصعب فى المواجهة الحتمية مع القضاء والجيش والإعلام وكل أركان دولة "وكر العقارب" بهدوء ومقدرة. ولو شئنا الحديث عن طريق الثورة وطريق الإصلاح، وعما يكون أجداهما نفعًا للشعوب، لوجدنا أن الحالة التركية تثبت لنا بما لا يدع أي مجال للشك أن الإصلاح التدريجي الهادئ أجدى وأنفع.. ولك أن تتخيل لو أن الحالة التركية بكل مكوناتها "اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا وإقليميًا" قامت بها ثورة كالثورات التى قامت إلى جوارها فى أوروبا الشرقية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.. ما الذى كانت ستؤول إليه الأمور مع وجود الجيش كما كان دائمًا فى "قلب الجمهورية".. على أن المقارنة بين الثورة والإصلاح عبر التاريخ لها مدارات مختلفة وسياقات مختلفة. حزب العدالة والتنمية – تاريخيًا - ينتمي إلى مدرسة "الإصلاح الإسلامي - الحركي" التى ظهرت فى العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة عام 1923م.. قبل سقوط الخلافة كان هناك الإصلاح من "داخل الكيان" الشيخ حسن العطار ورفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده.. بعد الخلافة بدأت مسارات الإصلاح تأخذ مسارات مختلفة كان أشهرها وأوسعها انتشارًا وتأثيرًا حركة "الإخوان المسلمين" التى تعتمد العمل الجماهيري المنظم والتفاعل مع المجتمع من خلال مؤسساته وأبنيته القائمة.. وهى الحركة التى كان لها ظلال كثيرة فى العالم العربى والإسلامي.. وكان منظرها الأكبر فى تركيا البروفيسور نجم الدين أربكان، حيث مارس كل أنواع العمل الإسلامي التقليدي الذى كان يمارسه كل الإصلاحيين الحركيين فى العالم العربى. لكن الواقع المحيط به كان أكثر تعقيدًا فيما يتعلق بقبضة الدولة الكاسرة التى تحكم قبضتها على كل المجالات العامة.. وكان القضاء طوع يمينها مستصدرة أي حكم قضائي ضد ما تريد ومَن تريد.. وأحكمت أوصال هذه الدولة برباط متين للغاية. سنعرف بعدها أن جماعة "الخدمة- فتح الله جولن" استطاعت اختراقها بمهارة فائقة وبقدر غير مسبوق من الترخص الفقهي "اختبارات الكحول وكشف علامات الصلاة على الركبتين والحجاب وقنوات الاتصال مع المنظمات اليهودية.. وأشياء كثيرة مثل ذلك". بالتطور الطبيعي والنوعي لحركة الأجيال خرج "قسم الشباب" بكامله تقريبًا مع مسئوله رجب أردوغان.. من حزب البروفيسور أربكان "الفضيلة" وأعلنوا حزبهم الجديد فى 14/8/2001 ولأن "هوى النفوس وحقدها الملحاح" كما يقول شوقي والذي سيكون حاضرًا بعدها فى المشاهد كلها فى تركيا ومصر أيضًا بالمناسبة كان هذا "الملحاح" يخيم بكثافة شديدة على علاقة البروفيسور أربكان بالشيخ فتح الله جولن إذ أنهما من مدرستين مختلفتين حيث الثاني من مدرسة الشيخ سعيد النورسى ومدارس النور رغم انشقاقه الخشن عنها فيما بعد، كما أنهما من أعمار متقاربة وما يحمله ذلك من ندية وتنافس وأيضًا لأن جولن كان يعمل بنشاط مع الخصوم الطبيعيين لأربكان حزب الشعب الجمهورى وحزب الحركة القومية.. سيفتح جولن (والنفوس لها سراديبها ودهاليزها) ذراعيه للشباب القادم من أرض الخصوم ويمدهم بمدد من كوادره التى كانت تخرجهم مدارسه المنتشرة فى ربوع تركيا أفواجًا أفواجًا.. ليس هذا فقط ولكن سيكون له يد فى المعارك الحاسمة التى سيخوضها العدالة والتنمية بعدها مع القضاء والجيش والشرطة.. ليس هذا فقط ولكن سيقرع له أبواب واشنطن.. ذلك أن صاحبنا (الشيخ جولن) اختار العيش فى أمريكا (بنسلفانيا) من عام 1999م، ولأنه كما ذكرت أولاً له مداولات غير مسبوقة فى الترخص الفقهى والسياسى سنجده يتمتع بعلاقات وطيدة مع دوائر صهيونية نافذة فى أمريكا.. بل سيحكى الرواة عن دموعه التى سالت على مشهد الأطفال والنساء فى إسرائيل حين ضربه صدام بالصواريخ وقت حرب تحرير الكويت. ويمتد كل ذلك أفقيًا ورأسيًا لصالح مدرسة (الإصلاح الإسلامى_الحركى) فينجح فارس العدالة والتنمية وصاحباه الأثيران (عبد الله جول وداوود أوغلو)فى تحويل (التدين) إلى فائض يخدم الوطن والناس، فينهض بالمجتمع التركي اقتصاديًا واجتماعيًا على نحو يكفل له النجاح الانتخابي ثلاث دورات متتالية.. مع ما أحدثه ذلك من تعرية رهيبة لمشكلات كانت مغطاة فى الماضى.. سيصحب كل ذلك متغيرات إقليمية حادة.. فتقوم ثورات الربيع العربى التى ستأتى بالإسلاميين فى كل الاستحقاقات الانتخابية التالية فى المنطقة.. وسيفتح الملف المذهبى والطائفى فى سوريا على أسوأ ما تكون الفتحات أخذًا فى طريقه مشكلة من أعقد مشاكل الشرق الأوسط(الأكراد).. وبمرور عشر سنوات تقريبًا على صولات وجولات (العدالة والتنمية) فى طول تركيا وعرضها فاتحًا خطواته على نحو أوسع باتجاه الإقليم كله بكل ما فيه من تعقيدات وتشابكات. بعدها سنكون أمام (عدالة وتنمية) جديد ومختلف و(رجب أردوغان) جديد ومختلف.. وسيكون على تحالفات الأمس أن تراجع نفسها وفق الاستحقاقات الجديدة.. ولأن هناك الكثير من الأسئلة تركت بغير إجابات مقنعة تتعلق بأشياء كثيرة عن جماعة (الخدمة) وشيخها الجليل فتح الله جولن.. ولأن كثيرًا من الدوائر التى تتحرك فى المحيط الإقليمى عربيًا وإسلاميًا ودوليًا باتت قلقة من التطورات المتلاحقة.. فلم يكن هناك وقت أكثر ملاءمة من هذا الوقت الذى تشهد فيه حركة (الإصلاح الإسلامي) فى قلب الشرق الأوسط (مصر) اضطرابًا مروعًا وعصفًا شعبيًا ورسميًا هائلاً ..لم يسبق أن كان له نظير فى تاريخ المواجهات بين الدولة والحركة.. وإذ كان ذلك كذلك.. فقد تفجرت ذات صباح هادئ مشكلة اسمها (معاهد التحضير للامتحانات الجامعية) حين أعلنت الحكومة تغيير نظام الامتحانات وتحويلها إلى مدارس خاصة ضمن مشروع أوسع لتطوير النظام التعليمي لصالح التلميذ التركي. يخطئ مَن يظن أن هذه المشكلة هى موضوع الخلاف الرئيسى بين (تلاميذ أربكان) و(تلاميذ جولن). صحيح أن هذه المعاهد تعتبر لجماعة (الخدمة) مجال الاستقطاب الرئيسي والأكبر للشباب وصحيح أنها تدر عليها أموالاً طائلة.. كما لا يبدو أيضًا أن مشكلة التحقيق مع رئيس الاستخبارات (حاقان فيدان) وما تم رصده من المعلومات فى تربيطات رجال (الخدمة) مع العلمانية العتيقة (حزب الشعب الجمهورى وحزب الحركة القومية) وقت أحداث ميدان تقسيم.. لا يبدو كل ذلك رغم خطورته هو الوجه الكامل لحقيقة ما يحدث الآن. المشكلة أعمق كثيرًا فى مدى الخلاف بين الطريقين والطرفين، ودرجة الهيمنة التى يريد كل طرف تحقيقها على حساب الآخر.. ولأن صاحبنا (الشيخ جولن) له فى دنيا الترخصات سوابق كثيرة.. فتشير كثير من التقارير، التى تتابع التطور السياسى الخطير الذى يشهده الإقليم كله، إلى أن هناك قنوات فتحت على اتساع كبير مع أطراف كثيرة وحوارات مكثفة دارت فى قصور عديدة وأجهزة كبيرة إقليميًا ودوليًا.. وعليه فقد كان هذا التزامن المدهش بين ما يحدث فى مصر الآن وما يحدث فى تركيا.. والهدف الذى يجمع عليه المجتمعون وعلى بعد ما بينهم..هو هدف واحد وهو الخلاص النهائى والتاريخى من هذا المسار (الحركى_الإصلاحي) فى الحالة الإسلامية وعلى نحو شامل وكلى.. مع الترحيب التام وإفساح المجال الكامل لباقى المسارات التى تشق طريقها فى المجتمعات بطريقة مختلفة لا تحمل فى داخلها هذا (الجنين) المزعج الذى طالما صدع أركان المنطقة العربية والإسلامية بميلادات متنوعة هنا وهناك.. والمهمة كلها يجرى تسهيلها. لكن الأمر لا يبدو سهلاً كما تصوره أهل التصورات.. ولا كما توقعه أهل التوقعات.. (أداء ببغاوات تبذل جهدًا محمومًا).. الحالة الآن تزداد تفاعلاً فى البلدين الأكبر فى الإقليم على نحو أدخل المعادلات فى حسابات جديدة وتحولات مفتوحة. كل ذلك يجعلنا نزداد يقينًا أن (قصة الإصلاح) فى الشرق قصة طويلة.. تمس الأمن الحضارى للأمة والسيادة والاستقرار والأمن العام والاستقلال الوطنى. ولم يبق للأرض سر تكاتمه **إلا وقد أظهرته بعد إخفاء.