ربما يجد البعض في "الوعكات السياسية" المتكررة في الكويت، وآخرها صِدام الحكومة ونواب المعارضة الذي وصل لحد ضرب النواب بالهراوات، دليلاً جديدًا على عدم صلاحية الديمقراطية بنسقها الغربي، من انتخابات حرة وبرلمانات فاعلة، للشعوب العربية، التي تحتاج إلى "مستبد عادل" كما نصح أحد الحكام العرب الأمريكيين، مقترحًا عليهم البحث عن نموذج له يولونه حكم العراق، لأن الشعب هناك عنيف ولا تصلح معه الديمقراطية. لكن أصحاب هذا التوجه يتجاهلون أنه لولا هذه الديمقراطية لانفجرت التناقضات التي تحفل بها الكويت، تارة بين سنة وشيعة، وتارة أخرى بين إسلاميين وليبراليين، وثالثة بين بدو وحضر، كما فات هؤلاء أن هذه الديمقراطية هي التي حمت الكويت من موجات العنف التي ضربت المنطقة في السنوات الأخيرة، لأن اللعبة الديمقراطية –ببساطة- استوعبت كافة التوجهات مهما بلغ تطرفها، يسارًا أو يمينًا، وبالتالي أوجدت مسارًا سلميًّا لتنفيس شحنات الغضب، بدلاً من كتمها، وتحول صاحبها لقنبلة موقوتة. هذا مع التسليم بأن "ديمقراطية الكويت" ليست النموذج الأمثل، ففيها كل سلبيات الديمقراطيات العربية الأقل رسوخًا، من سيطرة المال السياسي والعصبيات على الانتخابات، وتراجع دور النائب السياسي لصالح "نائب الخدمات"، والتدخلات الحكومة، وإن كانت ناعمة، عبر تدعيم النواب المقربين منها بالخدمات مما يعزز حظوظهم لدى الناخبين، يضاف لذلك افتقاد العملية الديمقراطية في الكويت للعمل الحزبي الصريح، وإن كانت التكتلات والتحالفات السياسية تلعب دور الأحزاب بصورة أو أخرى، لكن يعيب معظمها اتخاذه شكلاً طائفيًّا أو دينيًّا صرفًا، بينما يفترض أن تعزز الأحزاب الحوار الداخلي بين مختلف مكونات المجتمع، بحيث يصبح الاصطفاف سياسيًّا، وليس عرقيًّا أو طائفيًّا. شخصي أم سياسي؟ وبالعودة إلى الصدام الأخيرة بين الحكومة والمعارضة نجد أنه اتخذ طابعًا أعنف بكثير من المحطات السابقة؛ وذلك لطغيان الجانب الشخصي على الشق السياسي، ففي السابق كان أداء الحكومة وملاحظات النواب بشأنه هو موضوع الصدام، لكن الجوانب الشخصية طغت هذه المرة رغم محاولات تغليفها بغطاء سياسي. وترجع جذور الأزمة إلى اتهام النائب فيصل المسلم للحكومة بتقديم رشىً مالية للنواب للتأثير على مواقفهم، وفاجأ الجميع داخل البرلمان بإظهار شيك ممهورًا بتوقيع الشيخ ناصر المحمد رئيس الوزراء موجهًا لأحد النواب، وأثار ذلك غضب المحمد، مؤكدًا أن الشيك من أمواله الشخصية وليس من أموال الحكومة، وأنه لا يحق لأي شخص، بحكم الدستور الذي يحمي الملكية الخاصة، أن يتدخل أو يسأله عن ذلك، فضلاً عن أن وصول الشيك ل "المسلم" يشكِّل خرقًا لقانون سرية الحسابات البنكية. ورغم أن هذه القضية تعود لأكثر من عام، وكانت أحد أسباب حلِّ مجلس الأمة السابق، إلا أن الأزمة عادت لتتفجر من جديد بعدما رفع المحمد دعوى قضائية ضد المسلم، وهو ما يستلزم رفع الحصانة عنه، الأمر الذي اعتبره نواب المعارضة خرقًا للدستور، الذي ينص على عدم محاسبة النائب عما يبديه من آراء داخل البرلمان ولجانه، وقد أيدت اللجنة الدستورية بالبرلمان هذا الموقف وأوصت برفض طلب وزير العدل رفع الحصانة، وهنا امتنع وزراء الحكومة والنواب المقربون عنها عن حضور جلسات المجلس حتى لا يكتمل النصاب القانوني للانعقاد، ويتم التصويت على توصية اللجنة. إلا الدستور وسرعان ما تشعبت القضية متخذة أبعادًا جديدة، حيث اعتبرتها المعارضة محاولة لتقليص صلاحيات النواب وتكميم أفواههم داخل البرلمان، خاصة بعدما جرى تداول صيغ لتعديلات دستورية قيل إن نوابًا مقربين من الحكومة يعتزمون طرحها، أبرز ما تضمنته الحد من قدرة النواب على تقديم استجوابات للحكومة، واشتراط توقيع عشرة نواب على عريضة الاستجواب لقبولها، وهو ما دفع نواب المعارضة لتكوين تكتُّل جديد باسم "إلا الدستور" لمواجهة هذه التعديلات المزعومة، رغم أن الحكومة نفتها جملةً وتفصيلاً. وفي ظل تعذر التئام البرلمان بسبب فقدان النصاب القانوني، لجأ نواب المعارضة لعقد اجتماعات شعبية في دواوينهم الخاصة لتوضيح موقفهم، إلى أن وقَع الصدام العنيف مع أجهزة الأمن، التي ادَّعت تجمهر بعض المشاركين في اجتماع بديوان النائب جمعان الحربش في الشارع، ما يخالف المرسوم الأميري بحظر التجمعات العامة، فيما ادَّعى نواب المعارضة أن الشرطة اعتدت عليهم داخل فناء الديوان وليس خارجه. تبييض الوجه وبغض النظر عن هذا الجدل، فقد كان لافتًا دخول أمير الكويت على خط الأزمة، مؤيدًا موقف الحكومة، ومؤكدًا أنه "المسئول الأول وليس رئيس الوزراء أو وزير الداخلية"، وأنه "من أمر بتطبيق القانون"، مما ضعضع بشدة موقف المعارضة، خاصة أن الأمير نفى وجود أي نية لتعديل الدستور أو حل البرلمان، وأخرجت تصريحات الأمير الحكومة من الزاوية التي انحشرت فيها، فالاعتداء على النواب أمر غير مسبوق في تاريخ البلاد، ولولا هذا التدخل السريع والحازم لكان سقوط الحكومة وحل البرلمان أمرًا محسومًا، إن لم يكن لثقل المعارضة، فعلى الأقل لتفريغ شحنات الغضب المكتومة، وتصويب العلاقة بين السلطتين؛ التشريعية والتنفيذية. وهكذا فإنه من المرجح أن تتخطى الحكومة بسهولة استجواب المعارضة المقرر مناقشته في 28 ديسمبر الجاري، حتى إن البعض رأى في إصرار المعارضة على تقديم الاستجواب، رغم الموقف الأميري، استفزازًا قد يزيد تأزم الموقف، لكن تراجع المعارضة عن تلك الخطوة كان سيشكل إحراجًا شديدًا لها، خاصة أن الأمير انحاز بالكامل لجانب الحكومة، ولم يطيِّب خاطر نواب المعارضة ولو بكلمة واحدة، ولذا فإن الرد على التصرف الحكومي باستخدام أدوات الردع النيابية، وعلى رأسها الاستجواب، يبيض وجه المعارضة أمام ناخبيها، كما أنه يعكس امتثالاً لشِق من توجيهات الأمير، الذي حذر من اللجوء إلى "الشارع" لطرح القضايا السياسية بدلاً من مناقشتها تحت قبة البرلمان، وهو ما قد "يزجُّ بالبلاد في أتون الصراعات السياسية". التوافق المفقود وبشكل عام فإن الأزمات المتكررة، والتي أدت لحل مجلس الأمة ثلاث مرات منذ 2006، تؤشِّر لخللٍ ما في الديمقراطية الكويتية، يستوجب حوارًا مجتمعيًّا شفافًا ونزيهًا لتحديد مواضع الخلل وطرق علاجها، ولن يحتاج الكويتيون للبدء من نقطة الصفر، فلديهم دستور متقدم للغاية وتجربة ديمقراطية عمرها نصف قرن. كما أن الوعي الشعبي بحقوق المواطنة مرتفع للغاية، وهو ما يجعل من إمكانية تحول أي تعديلات دستورية مرتقبة إلى "ردة ديمقراطية" أمرًا مستبعدًا، وفي تجربة عام 1983 مثال حي على ذلك، حيث رفضت لجنة تنقيح الدستور التعديلات المقدمة إليها، واستندت في ذلك للمادة (175) من الدستور، التي تنص على عدم الانتقاص من مبادئ الحرية والمساواة المنصوص عليها بالدستور، وأن أي تعديل يجب أن يكون "لمزيد من ضمانات الحرية والمساواة". وهكذا فإن تصويب المسار الديمقراطي لا يحتاج سوى "نوايا صافية وتوافق سياسي، وهذه أمور غير متوفرة حاليًا"، على حد تعبير الشيخ ناصر المحمد. وإلى أن يحدث ذلك تبقى الديمقراطية بكل مساوئها هي الضمانة لبقاء تناقضات الكويتيين في مسارها السلمي، ولعل الصِّدام الأخير يشكِّل أبرز دليل على ذلك؛ فعندما أَقْفَلَ البرلمان أبوابه في وجه فريق سياسي، اضطر هذا الفريق للنزول إلى الشارع، وكانت النتيجة هي ما حدث، وشكَّل إساءة لكل الكويتيين ولتجربتهم الديمقراطية. المصدر: الاسلام اليوم