فى 7 سبتمبر 2010 أذاعت محطة سى. بى. إس. CBS الإخبارية، تحقيقا قضائيا جرى فى أحد المحاكم الأمريكية، هو غاية فى الغرابة والطرافة فى آن واحد، فقد كان المتهم شخصية مجهولة الذكر تماما، لا يكاد يعرفه أحد خارج مدينته التى لا يزيد عدد سكانها كثيرا عن ربع مليون نسمة.. جرى التحقيق على خلفية موقف الرجل (وهو قسيس فى كنيسة صغيرة) من قضية كانت محور اهتمامه منذ تولى قيادة الكنيسة سنة2001، وهى الهجوم على الإسلام.. فالاسلام فى نظره دين عنف وإرهاب وهو خطر على أمريكا.. وأخذ يصعّد حملته على الإسلام محاولا جذب أنصار متعصبين مثله على "الفيس بوك"؛ ففى أغسطس سنة 2009 كتب على المساحة الخضراء لفِناء كنيسته باللون الأحمر لا فتة كبيرة مكتوب عليها عبارة [الإسلام من الشيطان]، وثبّت لافتات على طول الطريق المؤدّى للكنيسة بنفس الشعار، كما ألبس تلميذين من أبناء رواد كنيسته قميصا مكتوبا عليه الشعار نفسه وأرسلهما إلى المدرسة.. ولكن مدير المدرسة رأى فى ذلك تحدّيا وإهانة لمشاعر التلاميذ المسلمين وأسرهم، فأرسلهما إلى بيتيهما لِيُغيِّرَا ملابسهما.. سأله المحقق قائلا: أنت تروّج فى مواعظك أن المسيحية وحدها من الرب.. فهل تعلم من أين جاءت الشريعة الاسلامية..؟ أجاب: حقيقة لا أعرف.. ولكنى أظن أن هناك خبراء قالو إنها جاءت من قانون موسى القديم.. لاأدرى...! سأل المحقق: كم من المسلمين تعرف معرفة شخصية.. أو تناقشت معهم..؟ أجاب: أنا لا أعرف شخصا مسلما قط.. ولا أذكر أننى قابلت واحدا منهم فى حياتى...!.. ثم أضاف: أنه لم يحضر أى مناقشة مما يسمونه حوار الأديان.. فهذه الحوارات لا معنى لها ... سأله المحقق: إنك تقول إن أى شيء ليس من الرّب فهو من الشيطان .. فهل هذا صحيح..؟ أجاب: آ.. نعم.. أظن هذا.. ثم إن الأمر يتوقف على ما تتحدث عنه.. فأنا لا أعتقد مثلا أن لعبة البسبول من الشيطان لمجرد أنها ليست من الرب.. ولكنى بصفة عامة أعتقد فعلا أن ماليس من عند الرب فهو من الشيطان.. سأل المحقق: هل الهندوسية من الشيطان..؟ أجاب: طبعا .. بكل تأكيد.. ٍسأل: والبوذيّة..؟ أجاب: نعم.. سأله المحقق: فما هو شأن اليهودية فى نظرك..؟ فأجاب: إنها من الشيطان.. ساله المحقق: هل لكنيستك سياسة معيّنة فى الوعظ.. أو رسالة مدونة فى وثيقة يمكن الاطلاع عليها..؟ قال: لا أعرف شيئا عما تتحدث عنه.. ولا أفهم ماذا تقصد بالرسالة المدونة ..! اعترف المتهم فى التحقيق بأن الذين يحضرون قُُُّداسه تراجع من مائة شخص فى الأسبوع إلى خمسين شخص فقط.. فلما سأله المحقق عن السبب فى ذلك... قال: أعتقد أن ما نعظ به أكثر حرارة مما يحتمله المسيحي العاديّ.. لقد اعتاد الرجل أن يقدّم اسمه مسبوقا بلقب [دكتور] ولكن المحقق لم يجد فى أوراقه سوى شهادة نجاحه فى الثانوية العامة، فلما سأله عن مصدر هذه الدكتوراة زعم أنها دكتوراة فخرية، حصل عليها من كلية كاليفورنيا للدراسات العليا فى اللاهوت سنة 1983 .. فلما راجع المحقق الكلية المذكورة نفت أنها منحت شخصا بهذا الإسم أى دكتوراة ...! أعتقد أن القارئ من هذه المقدّمة قد عرف عمّن نتحدث: إنه القس "تيرى جونز" الذى كان راعيا مغمورا لكنيسة صغيرة مغمورة.. بمدينة جينزفيل بفلوريدا الأمريكية.. ثم فجأة انطلقت شهرته إلى الآفاق .. آفاق الآعلام الأمريكي والعالمي، وسُلّطت على شخصه الأضواء من كل جانب.. وأصبحت مواقفه وتصريحاته مركز اهتمام كبار الشخصيات بما فى ذلك القائد العام الأمريكى لقوات التحالف بأفغانستا، ووزير الدفاع والرئيس الأمريكي أوباما نفسه .. وذلك على أثر إلإعلان عن اعتزامه إحراق مائتي نسخة من القرآن فى احتفالية كبيرة بفناء كنيسته، وذلك بمناسبة حلول الذكرى التاسعة لضحايا هجوم 11سبتمبر 2001 ، بهدف أن يجعل هذا التاريخ "يوما أمريكيا لحرق القرآن"...! كان يخطب فى الكنيسة فأمسك مصحفا بيده وقال: هذا الكتاب هو السبب فى الهجوم الإرهابي، وفى مقتل ثلاثة آلاف أمريكي، ولا بد حرْقه .. وقد صدر له كتاب هذا العام (2010) بعنوان:"الإسلام من الشيطان" (الله أعلم بمن كتبه له...!).. ولكننا نعلم أن توم شيفرز Tom Chivers علّق عليه فى صحيفة التلغراف (بتاريخ 13 ديسمبر 2010) فقال: " إنه كتاب مليء بالأكاذيب وأن عيسى المسيح لو كان موجودا لأحرقه.." ولكن تيرى جونز له رأي آخر.. فقد سأله الصحفى تيرى موران مراسل تليفزيون الABC عن اعتزامه إحراق القرآن: هل تعتقد أن المسيح لو كان موجودا هنا يمكن أن يقول لك إحرق القرآن..؟! فرد القسّ قائلا: "بالتأكيد .. نعم .. بالتأكيد.. ولو أنه بعث إليّ برسالة ألا أفعل لتوقّفت عن حرق القرآن .. لكنه لم يفعل...!" يستطيع القارئ أن يجد مصادر عديدة لقصة هذا الرجل المثيرة للجدل.. ولكن أنبّه إلى أن ما كُتب عنه باللغة العربية يتّسم أكثره بالسطحية.. وفيه خلط واضح بين شخصيات أخرى بنفس الإسم. على سبيل المثال: كتب أحدهم عن تيرى جونز باعتباره أستاذ جامعي متخصص فى علم الحيوان وقال آخر: إنه مستشرق.. وكاتب أكاديمى .. ولكنى استطعت بعد البحث والتحقيق أن استخلص صورة حقيقية عنه؛ فهو لم يحصل على أى تعليم نظامى فوق الثانوية العامة.. شخص متوسط الذكاء، متعصب ضيق الأفق، عابث الوجه، لوقمت بتكبير صورته المنشورة فستلاحظ أن بشرة وجهه الدهنية تفرز بثورا على جانبي فمه، يخفيها بشعر شاربه الممتدّ على الجانبين .. وعلى جبهته المكتنزة وبين حاجبيه توجد تجاعيد مقطّّبة.. تقلّص من حجم وجهه فى تكشيرة، تعبّر عن شعور مزمن بالاشمئزاز وعدم الرضًا، فإذا أمعنت فى قراءة تضاريس وجهه ونظراته تشعر كأنه يحاول إخفاء شيء ما فى أعماقه يخشى، أن تشفّ عنه ملامحه.. وفى علاقاته الاجتماعية يتكشّف عن شخصية متسلطة.. جعلت عددا كبيرا من رُوّاد كنيسته يهجرونه إلى كنائس أخرى .. قالوا عنه: أنه لا يمثل الأخلاق أو القيم المسيحية، وإنما يتعسّف بفرض آراءه الخاصة، ويعتبر من يخالفه فيها مخالفا للرب ولا يستحق رحمته... ويقول عنه المراقبون أنه لم يقرأ شيئا عن الإسلام وأنه هو وزوجته تلقّّوْا معرفتهم عن الاسلام من مشاهدة فيديو "يو تيوب" فى مواقع على شبكة الإنترنت، مشهورة بعدائها للإسلام والمسلمين.. وقد سأله مراسل نيويورك تايمز: هل لديك معرفة مباشرة بالقرآن..؟ فقال: وما حاجتى إلى ذلك.. أنا لا أعرف إلا مايقوله الإنجيل فقط..! فجهل الرجل ليس محتاجا لتوثيق أكثر من هذا.. يصفه بعض الصحفيين بإنه يبدو متعطّشا للوقوف أمام الكاميرات للتصوير.. وهو يجد أكبر متعة فى هذه الحالة.. اعتدت بإزاء أمثال هذه الشخصيات المعقّدة أن أبحث عن الدوافع التى تدفعهم إلى هذه الحماقات الصارخة.. والظهور بمثل هذا السلوك الصادم.. الذى يكشف عن نوع من العمى الاجتماعى يجعل صاحبه غير قادر عل أن يدرك مدى ما يسببه سلوكه من ضرر للآخرين من حوله.. ولا يستوعب أبعاد ردود أفعالهم.. ولعل فى بقية قصته إلْماعات ذات دلالة على هذا النمط من الشخصيات الشاذة.. [إقرأ فى هذا تحقيق الكاتب والصحفي المتخصص فى الشئون الدينية دافيد جبسون David Gibson].. وإليك أطراف من تفاصيل قصته: بعد أن تخرج تيرى جونز من المدرسة الثانوية عمل فى أحد الفنادق حتى أصبح مديرا به.. وكان ينتمى إلى واحدة من الكنائس التابعة لمنظومة (بنتكوست).. مهْوى أفئدة المسيحيين الأصوليين، الذين يؤمنون باقتراب موعد عودة المسيح إلى الأرض.. وأن تجلّيات الروح القدس قد بدأت تنهمرعلى البشر كإرهاص لقرب هذه العودة، وهم يعشقون الاحتفاليات الجماهيرية المشتعلة بالحماس.. معتقدين أن هذه هى الوسيلة المُثلى لاستدعاء الروح القدس، لتتجلّى عليهم ببراكاتها ومعجزاتها فى شفاء الأمراض المستعصية، وحلّ معضلات حياتهم.. كما يؤمنون بأن قياداتهم الكنسية لهم علاقات مباشرة بالروح القدس، تجعلهم فوق المُساءلة من أى سلطات أخرى .. وجد مؤسس كنيسة جونزفيل استعداد تيرى جونز للوعظ الديني فاحتضنه، وسمح له أن يكون قسيسا لنصف الوقت بجانب عمله فى الفندق، ثم اختاره هو وزوجته سِلْفيا لبعثة إلى مدينة كولونيا بألمانيا سنة 1981 ليؤسس هناك كنيسة مماثلة.. فبقي بها ما يقرب من عشرين سنة .. ولكن مسلكهما هناك كان مثار شكوك واتهامات كثيرة من جانب روّاد الكنيسة أنفسهم ومن بينهم إبنة للرجل تُدعى (إمّا) من زوجة سابقة.. كلّهم أجمعوا.. على وصفه بالاستبداد.. وسوء المعاملة.. واستغلال أموال الكنيسة فى تمويل شركة خاصة ملك القسّ وزوجته، تتاجر فى المفروشات والأثاثات العتيقة.. تحت غطاء مساعدة الكنيسة.. كما أُتّهم مع زوجته سِلفيا بسوء معاملة العمال، واستخدام طلبة مدرسة (دوف الدينية) فى تحميل سيارات شركتهما دون أجر.. تقول عنه الألمانية ديانا برويل: إن تيرى جونز لا يمثل القيم أوالأخلاق الإنجيلية.. وأنه يحشر معتقداته الخاصة المتعصّبة فى كل قضية دينية.. حيث يزعم أنه يتلقّى وحْيا خاصا من الرب فى كل مواقفه.. وأن من يخالفه فإنما يخالف الرب نفسه...! رفع بعض المنشقين على كنيسته قضية ضده أمام محكمة بمدينة كولونيا، وقدموا للمحكمة أدلّة على انتحاله لقب الدكتوراة بدون مؤهل حقيقى.. وبالفعل انتهت تحقيقات المحكمة إلى قرار بتغريمه ثلاثة آلاف يورو لاستخدامه لقب دكتوراة مزيف فى أوراقه ومعاملاته الرسمية.. وهكذا انتهت بعثته إلى كولونيا بفضائح تمسّ الأمانة، وفقد شرفه ومصداقيته كرجل دين.. فرحل عنها مُكرها، ليعود إلى جينزفيل ويتولّى رئاسة كنيستها بعد وفاة راعيها السابق.. وليبدأ مشروعه الإجرامي فى حرق القرآن.. ولكنه تراجع عنه ربما تحت تهديدات جهاز المخابرات الأمريكية.. أو لاقتناعه بوجهة نظرهم أن حرق القرآن سوف يعرّض جنود أمريكا والأمريكيين عموما فى العالم وفى أفغانستان بصفة خاصة لخطر الإبادة.. يجب أن أنبه إلى أنه من الخطأ استخدام مصطلح "حرق القرآن" فالقرآن لا يمكن حرقه كما يتصور القسيس الغبي.. إنه محفوظ بالوعد الإلهي إلى يوم القيامة.. وما كان يخطط له تيرى جونز هو حرق [نسخ من المصحف]... ويُقال أن فى مصر قسيس غبي آخر زيّن له شيطانه أونفسيته المريضة أن ينتج فيلما بعنوان "كلاب محمد" لينشره فى الإنترنت .. ونحن المسلمون لا يمكن أن نجارى هؤلاء.. أونفعل مثلهم فنحرق الإنجيل أو أى كتاب ديني آخر.. ولا أن نقول عنهم إنهم كلاب المسيح.. فالمسيح من أنبياء الله العظام.. أُمِرْنا أن نحترمه ونؤمن برسالته وبكتابه الحقيقي الذى أُوحِيَ إليه من ربه وخالقه، فالكتب المنزّلة موضع احترام فى دين الله وعند جميع المسلمين.. لذلك لا نقول: كلاب المسيح أبدا.. ولكننا قد نقول كلاب فقط... ونقول جُهلاء وحاقدون ومتعصبون أغبياء.. من طينة تيرى جونز وعلى شاكلته.. ولكن دون أن ننسبهم أبدا إلى شخص المسيح عليه السلام.. فالمسيح بريء من هؤلاء جميعا ... Myades3 [email protected]