لا يمكن أن نصدق أننا من البلاد النامية والتي تعاني من مشكلات اقتصادية متفاقمة ومن انخفاض في معدلات الدخل.. ومن لجوء سكانها إلى العيش في المقابر.. ومن معاناتهم اليومية في الوقوف في طوابير للحصول على رغيف العيش.. أو أنبوبة بوتوجاز.. أو كيلو سكر..! فما نشهده في شوارعنا من أكبر صالة عرض لكل أنواع السيارات الحديثة يثير الدهشة والتساؤل والحيرة. ولن نتقبل ما يقوله البعض أن أصحاب هذه السيارات هم قلة في بلد تعداده يصل إلى 80 مليونًا من البشر، لأن هذه السيارات في كل مكان.. في المناطق الشعبية قبل الغنية وتزدحم بها الحواري والأزقة قبل أن تكتظ بها "جراجات" الفيلات الخاصة في القاهرةالجديدة وفي السادس من أكتوبر..! والأمر لا يتوقف عند حدود السيارات التي قد يكون هناك مبررًا لتكاثرها بهذه الأعداد الهائلة حيث شجع نظام التقسيط العديد من الفئات على شراء السيارات الحديثة، وهو تبرير لا يمكن قبوله كثيرًا أيضًا لأن أقساط السيارات الشهرية تتطلب أن يكون صاحبها من أصحاب الدخول المرتفعة.. فبجانب السيارات هناك هذا الكم الرهيب من الفيلات والشقق التي انتشرت في ضواحي القاهرة واستقطبت أعدادًا كبيرة من الناس، لم يتوقفوا عند حدود شراء شقة واحدة، بل أن بعضهم قام بشراء عمارات كاملة من أجل الأبناء والأحفاد أيضًا، وسارع البعض الآخر إلى اقتناء الشقق والشاليهات والفيلات في الساحل الشمالي والعين السخنة والغردقة والجونة وشرم الشيخ وسهل حشيش، وكل الأماكن والمنتجعات التي يتجاوز سعر أقل شاليه فيها مبلغ المليون جنيه والذي أصبح مبلغًا لا قيمة له ولا احترام في دنيا العقارات..! وبعيدًا عن الشقق والسيارات.. فإن هناك المدارس الخاصة والجامعات الخاصة التي أصبحت مكتظة بأعداد كبيرة من أبناء الطبقات التي تصنف على أنها متوسطة أو فقيرة أيضًا، وبات هؤلاء يدفعون رسومًا دراسية خيالية، وتعامل البعض مع هذه المدارس والجامعات على أنها الباب الملكي لدخول عالم الوظائف ذات الأجور المرتفعة ولدخول أجواء اجتماعية جديدة في عالم العقد الطبقية..! وما تنفقه الأسر المصرية العادية على الدروس الخصوصية والمراكز التعليمية يمثل أرقامًا لا يمكن تخيلها، ولا يمكن أيضًا معرفة مصدرها ولا كيفية حصول هذه الأسر على كل هذه المبالغ..! ولا يمكن بالطبع إغفال مشاهد الازدحام الهائل لشواطئنا وسواحلنا في فصل الصيف وحيث أعداد المصطافين والإنفاق الكبير على الاستمتاع والنزهة الذي يمنح الانطباع بأن هناك فائضًا ماليًا كبيرًا لدى الأسر يحفزها على السفر والاستمتاع بالشمس والبحر والوجه الحسن..! وما يحدث في شهر رمضان المبارك من بذخ وتبذير في الإنفاق على الطعام وفي السهرات والتجمعات مثال آخر على أن الخير موجود وأن الحياة حلوة..!! ويدفع البعض بأن هذه صورة زائفة وأن الأغلبية تعاني وأن الناس تحت خط الفقر.. وأن البطالة منتشرة وتقتل الشباب.. وأن اليأس في النفوس قد وصل مداه.. وأن الذين يستمتعون بهذا كله هم قلة من الناس، أما الفقر فهو السائد وهو الذي يدفع بعض الناس إلى الانتحار..! وهي دفوعات تدخل في خانة المنطق والمعقول، فهذا ما كنا نعتقده، وهذا ما تؤكده الأرقام والإحصائيات، وهذا ما يظهر في الأجور والمرتبات، وهذا ما يبدو واضحًا في أحاديث الناس وشكواهم المستمرة..! ويبدو صعبًا محاولة فهم وتفسير هذا التناقض، فكيف يمكن أن تكون المرتبات منخفضة إلى هذا الحد بينما يتمكن الناس من تلبيه متطلبات الحياة.. وكيف يمكن لموظف لا يتجاوز راتبه الألف جنيه أن يذهب أبناءه إلى مدارس خاصة.. وكيف يمكن لمدير عام يتقاضى ألفي جنيه أن يمتلك شاليهًا وفيلا وأكثر من سيارة. ولا تفسير ولا إجابة إلا بالبحث عن الفساد.. وهذا الفساد بهذا الكم وبهذا الحجم وعلى كل المستويات يؤكد حقيقة واحدة وهي إننا فعلا أغنى بلد، لأنها بعد هذا كله مازالت موجودة على الخريطة، ومازال النيل فيها يجري..! [email protected]