منذ أيام قليلة .. وأنا أحاول إعادة ترتيب الصورة الممزقة .. ولملمة أطراف المشهد الحادث في العالم برمته .. وأنا أتابع مراسم دفن الزعيم الجنوب الافريقي نلسون مانديلا .. هي خمسة وتسعون عاما .. فصلت بين يوم مولد نلسون مانديلا وبين يوم وفاته ، وهي هي نفس الاعوام التي فصلت بين خروجه الى الدنيا في مدينته قريته التي ولد فيها كونو وبين عودته محمولا على الاعناق في طريقه الى تراب هذه الارض التي نبت منها .. هذه الاعوام المديدة التي عاشها مناضلا ، جعلت منه اسطورة العصر في النضال والكفاح ضد المستعمر وضد الفصل العنصري ، مستخدما سلاح التسامح والمصالحة ، مثله في ذلك مثل غاندي الذي امتلأ قلبه ايضا بالسلام والطيبة والبساطة والانسانية .. له وللاخرين . ساعتها تذكرت مقولة .. ان تدعو الى الحرية وأن تعمل لها لنفسك ، أمر طبيعي ومعروف ، وأن تدعو وتعمل لها من أجل من حولك .. ممن هم معك ومن هم ليسوا معك .. أمر أخر أكثر ايجابية وتقديرا .. مثلما هو الحال ، أن تدعو الى التسامح .. وأن تعمل له لنفسك أمر .. وأن تدعو وتعمل له من اجل من حولك .. هذا أمر اخر .. لقد كان مانديلا نموذجا في حكمة الارادة الانسانية حين قرر أن تجنح الى انسانيتها أولا قبل أي شئ اخر .. حتى ولو كان هذا الاخر هو العدالة والانصاف واستعادة الحقوق .. هذا بالضبط هو السر الكامن في شخصية الراحل الكبير الذي ودعه العالم من شرقه وغربه ، في شماله وجنوبه ، من محبيه وأعدائه ..حيث اجمع الكل على انه كان رجلا طيبا متسامحا .. لا اتجاوز الحقيقة أن قلت أن الأعوام السبعة والعشرين التي قضاها مانديلا في سجون الفصل العنصري الابارتايد لم تجعل منه أنسانا ثأريا ، أو حاقدا .. بل زادته تسامحا فوق تسامح ، ومنحته مناعة قوية ضد مشاعر الكراهية والضغينة .. لقد كان مانديلا انسانا طيبا بالفعل . ليس مع اصدقائه ومريديه فقط ، بل وأيضا مع أعدائه وسجانيه .. وذلك لسبب بسيط هو ايمانه الكامل بانه ليس لديه أعداء .. كثيرون هم اولئك الزعماء الثوريين التقليديين الذين ملأوا الدنيا صياحا وعراكا ، ثم مالبثوا ان راحوا ادراج النسيان والاهمال بعد أن ماتوا .. وهناك زعماء اخرون .. امتزجت زعاماتهم بالانسانية والروحية .. فعاشوا طويلا بعد أن توارت جثامينهم تحت الثرى .. ان القيمة الحقيقية التي أراها واجبة تقول بأن مانديلا قد تمكن من إقامة الجسر الوحيد العملي بين إرث بلاده العنصري وبين حاضرها ومستقبلها المتعدد الأعراق، وإحداث تركيبة من العبقرية السياسية والحكمة الإنسانية التي لا يملكها إلا الزعماء الحقيقيون . ولاشك في ان الاعوام السبعة والعشرين التي أقامها وراء القضبان خرج رغم عنها سالم الروح ممتلئا برؤية غامرة لجنوب أفريقيا المتسامحة، الأمة التي تحررت لكي تحتضن حتى مؤسسي نظام الفصل العنصري والمنتفعين منه. فلم تكن عمليات التطهير السمة المميزة التي ارتضاها لانهاء حكم البيض، ولم تكن هناك ملاحقة للمعارضين أو تقنين لعدالة استثنائية، بل إن كل ما طالب به مانديلا كان الكشف عن حقيقة ما حدث في الماضي. لقد نجح مانديلا في هداية جنوب أفريقيا إلى الحرية لأنه كان قادرا على رؤية مستقبلها بشكل أكثر وضوحا من أولئك الذين عاشوا سنوات الفصل العنصري خارج أسوار السجون. والحق أنه كان يمتلك ذلك الوضوح النادر للرؤية الأخلاقية التي قد يغذيها وجود المرء في السجن وربما ليس كمثل أي بيئة أخرى. إن امتلاك القدرة على إدراك الكيفية التي تعمل بها النفس البشرية بدرجة من الوضوح لا ينعم بها أغلب البشر يُعَد من الهبات القليلة التي قد يمنحك السجن إياها. فعندما تضطر إلى التأمل في ضعفك، وعزلتك، (وقضيتك التي تبدو خاسرة)، تتعلم كيف تنظر بقدر أعظم من العناية إلى القلب البشري، قلبك وقلب سجانك. فقد تحمل مانديلا سجنه في سبيل قضيته، وتحمل عذاب المعاناة التي فُرِضَت على أسرته. غير أنه رغم كل ذلك لم ينكسر ولم يستسلم للغضب الذي لو تملكه .. لاستنزف كل مالديه من طاقة بناءة ، وكل قدرة على العمل والبناء .. هانحن نسمع كلماته وهو يرنو ببصره الى الفضاء اللانهائي وهو للتو خارج من قفص سجنه حين قال : "بينما كنت أخطو إلى خارج زنزانتي نحو البوابة التي ستقودني إلى الحرية، أدركت أنني لو لم أترك مرارتي ومقتي خلفي، فإنني كنت سأظل سجينا حتى الآن". وهو الذي قال أيضا : في مناسبة أخرى : "أمة واحدة وثقافات متعددة" والتي كانت شعاره الذي رفعه منذ وصوله حكم البلاد لأول مرة عام 1994، بصفته أول أسود ينتخب رئيسا لجنوب أفريقيا بعد فترة من الحكم العنصري استمرت أكثر من ثلاثة قرون. حيث تطلب منه منصبه الجديد تحقيق التعايش السلمي بين المجموعات الثلاث الموجودة في البلاد، وهي السود الأفارقة ويشكلون 79% من السكان، والبيض الأفريكانرز – الذين يتحدثون اللغة الهولندية الممزوجة ببعض المصطلحات الألمانية والفرنسية- 9.6% والهنود والآسيويون 2.5%، والملونون 8.9%. وكان عليه أن يواجه العنف العنصري الذي كان موجها في السابق من البيض إلى السود والعكس، والذي صار موجها من السود المهمشين "في اتجاه معاكس" إلى الأفارقة الوافدين من بلدان عديدة خاصة دول الجوار فثقافة التسامح بين عناصر الشعب المختلفة أي بين السود والبيض لم تكن قائمة إلى حد كبير، خاصة أن نمط الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية تحديدا كان يتطلب منح الأغلبية السوداء "المحرومة" المزيد من الامتيازات، وهي امتيازات بالطبع ستكّون خصما من الأقلية البيضاء الحاكمة سابقا. لقد كتب عليه أن يواجه خلال السنوات الاولى لحكم جنوب افريقيا .. تلك الاسباب التي أوصلت جنوب افريقيا الى هذا النوع السئ من التردي في كل مناحي الحياة : تزايد أعداد الفقراء في البلاد، إذ تتجاوز نسبة من هم تحت خط الفقر 50% من السكان وفق تقديرات عام 2000، فضلا عن وجود تفاوت كبير في الدخل بين الطبقات المختلفة، مما تسبب في حدوث توترات داخلية، بالطبع كانت سوف تؤثر بالسلب على الصعيد الداخلي. أن أفقر 10% من المواطنين لا يحصلون إلا على 1.4% من الدخل القومي الإجمالي، في حين أن أغنى 10% من السكان يحصلون على 44.7% من الدخل وفق تقديرات عام 2000. زيادة نسبة البطالة بين العمالة السوداء، وهي تصل إلى 42%، فشل الحكومة في تعويض السود عن الأراضي التي انتزعت منهم، وكذلك في استصلاح هذه الأراضي. فشل سياسات الحكومة في منع الجريمة، يضع المسؤولية على القيادة السياسية، ثم السياسات المتبعة، ثم عملية تنفيذ هذه السياسات. تزايد اعداد الهاربين وفرار الآلاف من اللاجئين إلى جنوب افريقيا من دول الجوار ، ومعظم هؤلاء أكثر تأهيلا من الناحية الفنية، فضلا عن استعدادهم للعمل بأجور أقل، ساهم في تضييق فرص العمل في وجه العمالة الوطنية. بعض الممارسات الخاطئة التي قام بها هؤلاء الأفارقة الأجانب مثل ارتكاب جرائم العنف والاتجار في المخدرات ساهم في نشوب العديد من الازمات .. كل هذه الازمات واجهها مانديلا في بدايات حكمه ، بالكثير من الحكمة .. والتسامح والمصالحة التي أهلته جميعها الى أن يكون رجل جنوب افريقيا . وقائدها ، وملهمها .. ولم يكن غريبا ان نرى كم هذا الدمع حزنا عليه ، وكل هذا الاسى لفراقه ، وكل هذا الحزن لفراق واحد من أعظم رجالات العالم في عصرنا الحديث . رحمك الله . أيها العم الطيب .. نلسون مانديلا .. والعزاء للعرب والمصريين على وجه الخصوص .. لاننا لن نعثر في يوم من الايام على مانديلا يصلح للعرب .. او للمصريين .. يقودهم ويعبر بهم ، مثلما عبر مانديلا بشعبه بحور الدم والكراهية والعنصرية .. الى واحة السلام والطيبة والتسامح .. وصولا الى تحقيق حلم الدولة .. وأمل الوطن ..