المتابع لما يحدث من مواجهات أو خلافات بين المسلمين والمسيحيين في مصر منذ سبعينات القرن العشرين، يجد أن معالجة تلك المشكلات تأخذ منحى مختلف عن ما كان شائعا في الماضي. فالتاريخ شهد أحداث مواجهة بين المسلمين والمسيحيين، وكانت تلك الأحداث حتى إذا استمرت لفترة، تنتهي بالعودة إلى قواعد العيش المشترك، من خلال الاحتكام لقواعد النظام الاجتماعي المتفق عليها داخل المجتمع المصري. ولكن ما حدث منذ سبعينات القرن العشرين، أن الأحداث كانت تستمر وتتفاقم دون أي مراجعة للمواقف، ودون أي محاولة للتوصل إلى حل لما يحدث من مواجهات. والحادث منذ سبعينات القرن العشرين، أن الأحداث تتراكم في اتجاه تدهور العلاقة بين المسلمين والمسيحيين. هناك بالطبع العديد من الظروف المتداخلة، والتي تؤثر على العلاقة بين المسلم والمسيحي في مصر، فالمتغيرات الإقليمية والدولية لها تأثير، كما أن تصرفات المسلمين والمسيحيين، لها أيضا تأثير، وكذلك دور الدولة والنظام السياسي. وكل هذه العناصر تتفاعل معا، لتصنع ما نشهده من أحداث. ولكن الملاحظ أيضا أن موقف الجماعة المسيحية من أحداث المواجهة أو المشكلات التي تواجهها، كان موقفا لافتا للنظر. حيث مالت الجماعة المسيحية في أغلبها إلى البحث عن تفسير لما يحدث، وإسناد هذا التفسير إلى التاريخ، حتى تصل لخلاصة حول وضعها في مصر. وكانت تلك الخلاصة تكرس الأزمة، وتنظر لها باعتبارها أزمة لا حل لها، وأنها أزمة عميقة الجذور في التاريخ، وليس لها حل متاح. وكأن القضية أصبحت تتمثل في أزمة تاريخية مستمرة بين المسلمين والمسيحيين، طيلة التاريخ الماضي منذ الفتح العربي لمصر. وتحولت تلك الرؤية إلى تصور تنشره الكنيسة والجماعة المسيحية، أو أغلبهما. هذه التصورات رأت أن هناك مشكلة بسبب وجود المسيحيين في مجتمع أغلبيته إسلامية، حيث يعني هذا أن المجتمع الإسلامي يعرض المسيحيين لمشكلات. كما كشفت بعض التصورات عن رؤية ترى أن موقف المسلمين من المسيحيين سلبي في كل الأحوال، وأنهم لا يتسامحون مع الاختلاف في الدين. ووصلت بعض التصورات إلى خلاصة مفادها، أن العقيدة الإسلامية نفسها ليست متسامحة مع وجود جماعات مختلفة في الدين. وبهذا أصبح التصور الذي ينتشر بين المسيحيين، مفاده أن هناك خطر على المسيحي، مادام يعيش في مجتمع أغلبيته إسلامية. وكأن هناك حدثا جديدا ظهر فجأة، يتمثل في مشكلة العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين. ولأن تاريخ العلاقة بين الطرفين ممتد لأربعة عشر قرنا، لذا أعيد تفسير كل هذا التاريخ في خلاصة تقول بأنه لم يكن إلا تاريخا للاضطهاد. وبهذا تحول تاريخ الجماعة المسيحية في مصر إلى تاريخ من الاضطهاد المستمر، والذي استطاعت الجماعة أن تواجهه حتى تبقى في بلدها مصر. مما جعل التصورات تذهب بعيدا، لتؤكد على أن الموقف الإسلامي من المختلفين دينيا، هو موقف اضطهاد بغرض إخراجهم من أرض الإسلام، أو تحويلهم إلى الإسلام. ومن هنا جاءت القصص التي تحكي محاولات التحويل إلى الإسلام قهرا، ومعها العديد من الروايات حول المخاطر التي تتعرض لها الجماعة المسيحية في مصر. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأت تنتشر تصورات حول مستقبل مصر في حالة وصول حركة إسلامية للحكم، وما يمكن أن يحدث للمسيحيين تحت الحكم الإسلامي. وتحولت تلك التصورات إلى مخاوف شديدة، تجعل البعض يقرر الهجرة خارج مصر. وبهذا حاصرت الجماعة المسيحية نفسها بالعديد من المخاوف، ولم تتمهل حتى تختبر تلك المخاوف، بل كانت تعمق تلك المخاوف كل فترة. إذا أضفنا لذلك مشكلة الهوية، حيث رأت الجماعة المسيحية أن هويتها مصرية خالصة، واعتبرت الهوية العربية والإسلامية دخيلة على مصر، يمكنا أن نصل لتصور للوعي الجمعي للجماعة المسيحية. فقد رسمت لنفسها تصورا خاصا، عن الوضع الذي يحقق لها الحماية، متمثلا في مجتمع قومي مصري، لا علاقة له بالمحيط العربي والإسلامي، وليس فيه مجال للعمل السياسي للحركات الإسلامية، وربما ليس فيه مجال أيضا للعمل الدعوي والاجتماعي للحركات الإسلامية التي تنشر الهوية الإسلامية للمجتمع، وتجعله مجتمعا إسلاميا. لذا أصبحت الجماعة المسيحية أو أغلبها، تبحث عن حالة خاصة، وتبحث عن الأسس التي تحقق لها هذه الحالة. وتبدأ سلسلة من الاستنتاجات المتتالية والمترابطة، فحماية الدولة القومية المصرية لا يتحقق إلا بالحل العلماني، والذي يمثل حائط صد أمام الهوية العربية والإسلامية. وحماية النظام السياسي من أي محاولة لتحويله إلى نظام إسلامي، تحتاج للسيطرة على النظام السياسي، حتى إذا كان من نخب حكم مستبدة. وبهذا تصبح العلمانية المستبدة حلا في تصور بعض من المنتمين للجماعة المسيحية، ومع الوقت يمكن أن تصبح خيار أغلبية الجماعة المسيحية. وربما هذا ما يفسر تلك العلاقة المضطربة بين الجماعة المسيحية والكنيسة وبين نظام الحكم في مصر، حيث يتهم نظام الحكم باضطهاد المسيحيين، وفي نفس الوقت يحوز على تأييد الكثير من المنتمين للجماعة المسيحية، والأهم أنه يحوز على تأييد الكنيسة. وهو ما يعني أن الكنيسة ترى أن النظام القائم، وهو يمثل نظام علماني مستبد، هو الذي يمنع وصول الحركة الإسلامية للحكم. وبهذا لن تؤيد الكنيسة ومعها جماعتها أي تحول ديمقراطي حقيقي، لأن الانتخابات النزيهة يمكن أن تأتي بالحركة الإسلامية للحكم، إن كان هذا هو خيار المجتمع. ويوحي هذا بأن الجماعة المسيحية أصبحت من الكتل التي تؤيد وضع قواعد على العمل السياسي قبل التحول الديمقراطي، حتى تمنع الحركات الإسلامية من الحكم، ويتم حراسة الهوية القومية العلمانية المصرية للدولة، من خلال قواعد دستورية، وربما من خلال حماية الجيش لتلك القواعد. ولا يمكن فرض رؤية على المجتمع المصري، والذي يظهر أنه مجتمع إسلامي له هوية مصرية عربية إسلامية، بدون تدخل خارجي، فالتصورات التي تنتشر داخل الجماعة المسيحية في مصر، لا يمكن حمايتها بدون تدخل غربي. فكلما كانت التصورات بعيدة عن الواقع الراهن، أصبحت تصورات مفروضة ولا تعبر عن الاختيار الحر للمجتمع. وهي حالة مماثلة لحالة المشروع العلماني نفسه، لأن هذا المشروع ليس له قواعد جماهيرية، لذا يلجأ حملة هذا المشروع إلى الاحتماء بالتدخل الخارجي، أو على الأقل التحجج بالوضع الدولي والظروف العالمية. والمتابع لمواقف الجماعة المسيحية، يجد أنها كلما عمقت رؤيتها الخاصة والمنفصلة عن رؤية المجتمع، اتجهت أكثر إلى طلب الحماية الدولية، وحاولت تدويل المسألة المسيحية في مصر. لذا أصبحت الجماعة المسيحية والكنيسة تراهن على الوجود القطبي في المهجر، والذي سمي أحيانا بأقباط الشتات، حتى تصبح القضية ذات طابع دولي، وتستفيد من الهيمنة الغربية الحالية على المنطقة العربية والإسلامية. فبدون هذه الهيمنة لا يمكن حماية مشروع قومي مصري علماني، يختلف في بنيته عن الهوية التاريخية السائدة في المجتمع. لهذا تعمق لدى الجماعة المسيحية الاستناد للخارج الغربي، وهو ما أدى إلى تحول الجماعة المسيحية من دور الجماعة المضطهدة إلى دور الجماعة التي تستقوي بالخارج، وتشعر بأنها محمية به. ولهذا بدأت تظهر صورة مختلطة لجماعة تشعر بالاضطهاد والقوة معا، وهو صورة مركبة لجماعة أقنعت نفسها بأنها جماعة في خطر، وفي نفس الوقت ترى أنا جماعة أصلية وراسخة، وتشعر بأنها تحتمي بالغرب المهيمن، لذا تختلط مشاعر الاضطهاد بمشاعر القوة، وتنتج تصرفات لها منطقها الخاص، ولا تستجيب للواقع المحيط بها، بل تستجيب فقط لمنطقها، أيا كانت ردود الفعل أو المتغيرات المحيطة بها. وإلى المقال القادم..