أظهرت الخلافات بين هيئتى قضايا الدولة والنيابة الإدارية من جانب ، ومجلس الدولة من جانب آخر على إختصاصات تلك الهيئات بالدستور ، ما آل إليه حال العدالة بمصرنا الحبيبة ، وكيف وصل الحال ببعض ممن يجلس على منصة القضاء ليحكم بين الناس إلى نبذ العدل جانبا ليحكم بهواه مع المخالفين له ، بما يفقده صلاحية الجلوس على تلك المنصة ، وخرجت التصريحات النارية التى تتهم أعضاء الهيئتين بأنهما تارة مرضى نفسيين ، وتارة أخرى بعدم صلاحيتهم للجلوس على المنصة ، وبوجوب إخراجهما من الدستور ، وذلك بإدعاءات واهية تنم على أحد أمرين : الأول : جهل قائلها بالقانون ، والثانى : علمه بالقانون ونكرانه له لتحقيق مآربه الخاصة ، وللرد على هؤلاء نبين الحقائق الآتية :
الوقفة الأولى : الرد على الإفتراءات :-
قالوا أولا : بأن عضو هيئة قضايا الدولة هو محامى الدولة مثله مثل أقرانه من المحامين الخاصين أو بالمؤسسات العامة .
وير عليه بأنه قول خاطىء ينم عن عدم إلمام قائله بالقانون وذلك للآتى :-
إختلاف طبيعة النيابة القانونية عن الوكالة ، فحضور عضو الهيئة عن الدولة مصدره القانون حيث نصت المادة 6من قانون الهيئة رقم 10 لسنة 86 على أن : (تنوب هذه الهيئة عن الدولة بكافة شخصياتها الاعتبارية العامة فيما يرفع منها او عليها من قضايا لدى المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها ولدى الجهات الاخرى التى خولها القانون اختصاصا قضائيا وتسلم اليها صور الاعلانات الخاصة بصحف الدعاوى وصحف الطعون والاحكام المتعلقة بتلك الجهات ما اتصل منها بجهة القضاء العادى او جهة القضاء الادارى او ايه هيئة قضائية اخرى ..) فعضو الهيئة ينوب عن الدولة بسلطاتها الثلاثة بغير وكالة وإنما يقوم بإثبات حضوره بمحضر الجلسة بقوة القانون بمجرد عضويته بالهيئة ، بينما حضور المحامى عن موكله ، أو الجهة التى يمثلها يحتاج إلى توكيل من الشهر العقارى ، ولا يستطيع الحضور عن أى شخص بغير هذا التوكيل . وقد بينت المادة 9 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 هذه العلاقة بقولها : ( يجوز للمحامي مزاولة أعمال المحاماة في البنوك وشركات المساهمة الخاصة والجمعيات التعاونية .وتكون علاقة المحامي بهذه الجهات علاقة وكالة، ولو اقتصر عمله عليها. ) ويتمثل هذا الإختلاف فى الآتى :- أ- عضو الهيئة يلتزم بإعمال صحيح القانون فيما يعرض عليه ، وله أن يخالف رأى الجهة التى ينوب عنها ، فله أن يرفع الدعوى او الطعن أو يمتنع عن رفعهما وفقا لصحيح القانون حيث نصت المادة 7 من قانون الهيئة على أن (اذا أبدت هيئه القضايا رايها بعدم رفع الدعوى او الطعن فلا يجوز للجهة الادارية صاحبه الشان مخالفة هذا الرأى الا بقرار مسبب من الوزير المختص .) وجدير بالذكر أن مشروع قانون الهيئة المزمع إصداره بعد العمل بالدستور الجديد قد نص على حذف جملة ( إلا بقرار من الوزير المختص ) حتى يتم تلافى مساوىء هذا النص ، والتى ظهرت فى العهد البائد ويكون رأى الهيئة نهائيا فى مسالة رفع الدعوى أو الطعن من عدمه ، وهو ما يقتضيه إعمال صحيح النيابة القانونية . بينما المحامى يلتزم بما يمليه عليه موكله ولايجوز له أن يتجاوز حدود الوكالة ، حيث نصت المادة 77 من قانون المحاماة على أن ( يتولى المحامي تمثيل موكله في النزاع الموكل فيه في حدود ما يعهد به إليه وطبقاً لطلباته مع احتفاظه بحرية دفاعه في تكييف الدعوى وعرض الأسانيد القانونية طبقاً لأصول الفهم القانوني السليم ). ب – لا يجوز للجهات الإدارية ( التى تنوب عنها الهيئة ) أن تعهد بالحضور عنها للسادة المحامين ، أوللباحثين القانونيين العاملين بها ، وفى حالة حضور غير أعضاء الهيئة عن ممثلى تلك الجهات الإدارية بصفاتهم يعد الحضور باطلا ، فلا يجوز لرئيس الجمهورية أو لرئيس الوزراء أو للوزراء أوللمحافظين ان ينيبوا محامين للحضور عنهم بصفاتهم وإلا عد الحضور باطلا ، فالنيابة ليست عن أشخاصهم بل عن صفاتهم الوظيفية ، بينما الموكل يجوز له ان ينيب أكثر من محامى للترافع عنه مع المحامى الأول ولا يترتب البطلان على ذلك . ج – لا يجوز لعضو الهيئة أن ينيب غيره من المحامين فى الحضور عن الدولة ، ولا يجوز له أن ينوب عن غيره من المحامين فى حضور دعواهم أثناء الجلسة ، ويترتب البطلان على ذلك ، بينما يجوز ذلك للمحامى حيث نصت المادة 56 من قانون المحاماة على أن ( للمحامي سواء كان خصماً أصلياً أو وكيلاً في دعوى أن ينيب عنه في المرافعات أو في غير ذلك من إجراءات التقاضي محامياً آخر تحت مسئوليته دون توكيل خاص ما لم يكن في التوكيل ما يمنع ذلك.) د – وجوب توقيع صحيفة الدعوى من المحامين ، وعدم وجوب ذلك من عضو الهيئة ، وذلك ما قررته محكمة النقض بقولها (: لما كانت نصوص القانون الخاص بتنظيم هيئة قضايا الدولة الصادر بقرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 75 لسنة 1963 المعدل بالقانون رقم 10 لسنة 1986، قد خلت مما يوجب توقيع عضو الهيئة على صحف الدعاوى والطعون التى ترفع منها نيابة عن الأشخاص العامة، أما ما ورد بالقانون رقم 17 لسنة 1983 بشأن إصدار قانون المحاماة، فهو بقصد تنظيم هذه المهنة وتحديد حقوق ممارسيها وواجباتهم، مما مؤداه – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن نص المادة 37/1 من قانون المحاماة سالف الذكر – والتى استلزمت توقيع محام مقيد بجدول محاكم الاستئناف على صحيفة الاستئناف – لا يجرى على إطلاقه بل يخرج عنه ما تباشره هيئة قضايا الدولة من دعاوى أمام المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، إذ ينظم عمل أعضائها القرار بقانون رقم 75 لسنة 1963 المعدل المشار إليه. لما كان ذلك، فإن عدم توقيع محام بهيئة قضايا الدولة على صحيفة الاستئناف - محل الطعن - المقدمة من الهيئة نيابة عن الطاعن بصفته لا ينال منها ويكون الاستئناف صحيحا وممن يملكه.( [ جلسة الخميس 18 يناير سنة 2001الطعن رقم 5894 لسنة 63 ق ] ه - استحقاق المحامى للأتعاب عن كل دعوى يباشرها ، بينما عضو الهيئة يتقاضى راتبه ، ولا يكافىء ولا يعاقب على كسبه أو خسارته للدعوى التى يباشرها نيابة عن الدولة . و – للموكل إلغاء التوكيل فى اى وقت يراه ، وإنهاء الوكالة بينه وبين الوكيل ، بينما النيابة لا تلغى بين الجهة الادارية والهيئة للنص عليها فى القانون . ز – أعضاء الهيئة وحدة واحدة ، بمعنى أنه يجوز لعضو الهيئة بأسوان أن ينوب عن أى جهة إدارية بالاسكندرية ، ولا يترتب البطلان على ذلك ، فلرئيس الهيئة ندب ايا من أعضائها ليباشر أى دعوى فى اى مكان ، بينما لا يجوز لمحامى الإدارات القانونية أن يحضر عن جهة أخرى غير جهته التى يعمل بها وإلا ترتب البطلان على ذلك ، ومثال ذلك لا يجوز لمحامى مديرية الصحة بأسوان أن يحضر عن مديرية الأوقاف بأسوان ، وكذا لا يجوز له أن يحضر عن مديرية الصحة بالقاهرة ، وقد بينت ذلك المادة 8 من قانون المحاماة على أن : (مع عدم الإخلال بأحكام قانون المرافعات المدنية والتجارية لا يجوز لمحامي الإدارات القانونية للهيئات العامة وشركات القطاع العام والمؤسسات الصحفية أن يزاولوا أعمال المحاماة لغير الجهة التي يعملون بها وإلا كان العمل باطلاً .) ح – أعضاء الهيئة يضمهم كيان واحد وهم تابعون لرؤسائهم المستشاريين بترتيب أقدمياتهم – مثل النيابة العامة والادارية – وطبقا للدستور الجديد فالهيئة مستقلة لا تتبع أحدا ، بينما محاموا الادارات القانونية تابعون لرؤساء الجهات التى يعملون بها إداريا – وهم غير قانونيين – ولا استقلال لهم ، فمحامى السكة الحديد وهيئة الأوقاف ، والكهرباء مثلا يتبعون مهندسا ، ولاتوجد أى رابطة تربط بين هؤلاء ، إذ أن كل جهة قائمة بذاتها . فكيف يطالب هؤلاء بالمساواة بالهيئة وهم تابعون لغير قانونيين ، وليسوا وحدة واحدة ، وإن اتفقت طبيعة العمل بينهم وبين الهيئة ؟! تبين مما سبق أن هناك حيادية فى عمل عضو الهيئة ، وإن كان قد أصابها ما اصاب سائر الهيئات القضائية الأخرى فى العهد البائد ، من التدخل فى عملها ، فإن النص على استقلالها عن وزير العدل فى الدستور الجديد سيعمل على تلافى ما أصابها مستقبلا .
قالوا ثانيا : : أن العبرة فيما درجت عليه الأحكام الخالدة بالحقيقة القانونية ، وليس بما يلبسه عليها الناس من أوصاف ، فالهيئة القضائية هي الهيئة التي تفصل في الخصومة بين طرفين أو تحقق فيها ، بما يفترض في ذلك من حيدة العدالة ، وعصمة الحق ، أما هيئة قضايا الدولة فهم محاموا الدولة الذين هم طرف رئيس في الخصومة ، اعتدنا منهم اللدد ، ولطالما استشكلوا في الأحكام العظيمة ليعطلوا تنفيذها تارة على سند من أسباب واهية وتارة بالطعن عليها أمام جهات غير مختصة . ويرد على هذا الإدعاء بالآتى :- أولا : بأن هناك جهات تمارس أعمالا أخرى ليس لهم ولاية الفصل في المنازعات وعلى الرغم من ذلك اعتبرها القانون شعبه أصيله من شعب السلطة القضائية وتتمتع بالاستقلال والحصانة الكاملة من هذه الجهات النيابة العامة وهى سلطه تحقيق وليس لها ولاية الفصل في المنازعات وكذلك أعضاء قسمي الفتوى والتشريع في مجلس الدولة وليس لهؤلاء ولاية الفصل في المنازعات وهم يتمتعون بالحصانة والاستقلال التي يتمتع بها باقي أعضاء مجلس الدولة وكذلك أعضاء هيئه مفوضي الدولة لا يتمتعون بولاية الفصل في المنازعات بل يقومون بتحضير الدعوى للمرافعة و إبداء الراى فيها وعلى الرغم من ذلك صنفهم القانون وفقهاؤه أنهم من أعضاء القسم القضائي في مجلس الدولة ويتمتعون بكامل الحصانة .
ثانيا : بأن منح الهيئة الإستقلال الكامل عن السلطة التنفيذية ضمانة أساسية لعدم تدخل الأخيرة فى عملها ، ولماذا لم يذكر هؤلاء كيف كانت المحاكم تفتح أبوابها حتى ساعات متأخرة من الليل لقبول تلك الإشكالات والقضاء فيها ؟!
قالوا ثالثا : تضمن النص أن يكون لأعضائها الحصانات والضمانات والحقوق والواجبات المقررة لأعضاء السلطة القضائية، فكيف تكون لمحامي الدولة حصانة وهي ليست كذلك لمحامي المواطن الأعزل من الحصانة ، وممن تكون هذه الحصانة ، فالحصانة لا تكون الا وقاية من عسف السلطة ، وهم الذين يدافعون عن السلطة فهل يحصنون السلطة من نفسها ، كما أن منحهم ذات الحقوق المقررة لسدنة العدالة الذين هم يد العدل لله في الأرض هو عطاء من لا يملك لمن لا يستحق . ويرد على هذا بالآتى :- بان هذا القول أوهى من بيت العنكبوت ، لا يستند إلى واقع أو قانون ، فهل حصانة عضو النيابة العامة من عسف السلطة فقط ؟! أم أنها من عسف الأفراد أيضا ، وماهو مآل عضو الهيئة الذى ينوب عن الدولة فى استرداد أراضيها المغتصبة ، هل يترك سدا للمغتصبين حتى يجد نفسه مبعدا عن تلك الدعاوى التى يباشرها بدعاوى أخرى كيدية ملفقة له ؟! ولماذا يدندن السادة المحامون من أجل الحصول عليها فى كل زمان ومكان .
قالوا رابعا : ببطلان إشرافهم على الانتخابات :- ويرد على هذا بالآتى :- بما ذكرته المحكمة الدستورية العليا فى تفسيرها لنص المادة 24 من القانون رقم 73 لسنة 1956 والذى نص علي أن " ويعين كل من رؤساء اللجان العامة واللجان الفرعية من أعضاء الهيئات القضائية...". وذلك فى القضية رقم 2 لسنة 26 قضائية المحكمة الدستورية العليا تفسير ، حيث قررت بأن ( يقصد بعبارة "الهيئات القضائية" الواردة بنص الفقرة الثانية من المادة (24) من القانون رقم 73 لسنة 1956 المشار إليه كل هيئة يسبغ عليها الدستور أو القانون الصادر بإنشائها أو تنظيمها صفة "الهيئة القضائية" وتنضم بهذه الصفة إلى تشكيل المجلس الأعلى للهيئات القضائية، ويصدق ذلك على هيئتي قضايا الدولة والنيابة الإدارية.) وحيث أن أحكام المحكمة الدستورية العليا بمجرد نشرها بالجريدة الرسمية تصبح ملزمة للكافة ، فمن ثم فلا يجوز الإدعاء بما يخالفها . من كل ما سبق يتضح تهاوى جميع الشبهات التى أبداها المعترضون على وضع الهيئة بالدستور الجديد ، مما يتعين الإلتفات عنها لعدم جدواها .
الوقفة الثانية : أوجه الشبه بين النيابة المدنية والنيابة الجنائية :-
بين يديك أيها القارىء الكريم مقارنه قام بها احد رؤساء محاكم الاستئناف - وهو حاصل على درجة الدكتوراه - بين عمل أعضاء هيئة قضايا الدولة وأعضاء النيابة العامة ، حيث توضح ان هناك وجه شبة بين عمل كلا منهما وهذه هي المقارنة :- 1- النيابة العامة تباشر الدعوى الجنائية وتدافع عن المجتمع ممثل في شخص المجني علية في الدعوى الجنائية وتطالب بعقاب المتهم. وقضايا الدولة تباشر الدعوى المدنية وتدافع عن المال العام وعن الدولة التي هي أداه للشعب في إدارة شئونه وتطالب بحق الدولة إن كان لها حق. 2- النيابة العامة خصم شريف يمثل النيابة القانونية عن المجتمع في مباشرة الدعوى الجنائية . قضايا الدولة خصم شريف يمثل النيابة القانونية عن الدولة بسلطاتها الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية في مباشرة الدعوى أمام القضاء والتي تكون الدولة طرفا فيها . 3- النيابة العامة تقوم بالمرافعة أمام المحكمة وتقدم مذكرات وتقوم بالطعن على الحكم إن لم يكن متوافقا مع طلباتها. وقضايا الدولة تقوم بنفس الدور. 4- النيابة العامة تصدر أوامر جنائية مثل الغرامة في المخالفات ...الخ وقضايا الدولة بصفتها نائبه عن الدولة وبموجب نص القانون تصدر أوامر بإجراء الحجز الادارى على أموال الشخص المدين للدولة دون إذن من القضاء. 5- النيابة العامة لا تصدر أحكاما قضائية . وقضايا الدولة لا تصدر أحكاما قضائية.
الوقفة الثالثة : القياس الفاسد :-
المعلوم لدى الكافة أن جميع أعضاء الهيئات القضائية قد درسوا علم أصول الفقه ، وهذا العلم قد بين الفرق بين القياس الصحيح والقياس الفاسد ، فالصحيح هو ما كانت العلة فى الأصل مساوية للعلة فى الفرع ، بينما الفاسد هو ما كانت العلة فى الفرع غير مساوية للعلة فى الأصل لا من قريب ولا بعيد ، وبإنزال ذلك على وقائع الخلاف الماثل يتضح الآتى :
إسباغ البعض لقب المحامى على أعضاء هيئة قضايا الدولة قياسا على المحامين بالرغم من البون الشاسع بين النيابة والوكالة ، بجامع علة ( الوقوف معا أمام منصة القضاء ) وعدم إلحاقهم بأقرانهم من النيابة العامة بالرغم من تماثل وتساوى العلة بينهما والسابق ذكرها آنفا ( تماثل العمل بين الهيئتين ) هو من قبيل القياس الفاسد ، المردود ، والذى يجب طرحه جانبا وعدم التعويل عليه .لاسيما وأن أحكام المحاكم العليا ( الدستورية والنقض والإدارية قد استقرت على إسباغ صفة الهيئة القضائية على أعضاء الهيئتين .
أخيرا ، أسأل الله أن يهدى هؤلاء إلى الحق ، وأن يثوبوا إلى رشدهم ، وأن يكون جل همهم الحرص على مصلحة البلاد والعباد .