هناء وشيرين جارتان "حلوين" ، تعود كل منهما لبيتها لتجد أطفالها قد أحالوا البيت إلي فوضي عارمة ، كانت شيرين تصرخ وتغضب وتصف الأولاد بالصفات التي تناسبهم وتكتشف وهي تنطقها أنها شتائم قاسية تثير فزع العيال فتكتفي بالضرب والمطاردة والتوعد بكل أشكال العقاب الممكنة ، وخاصة الحرمان سواء من المصروف أو الخروج والنزهة ، يقول الصغير : أنا جائع ، تصرخ فيه : مافيش أكل . بعد أن تشعر بالإجهاد والإنهاك ترق لبكاء الصغير وحزن العيال فتقوم لتعد لهم الطعام وتلطف معهم الأجواء ثم تبدأ في ترتيب البيت وهي محبطة ، وتفاجأ أن الأولاد ناموا ، تتأملهم بحنان ، تغلق النوافذ وتغطيهم وتربت عليهم بشئ من الأسي وتقول بصوت هامس : ماذا أفعل ؟ أنتم السبب ، ربنا يهديكم ، ثم تفكر لابد من تعويضهم بنزهة يحبونها . سرعان ما يتكرر الموقف بنفس الطريقة دون أن يتعلم الصغار شيئا مجديا ، فقط يتعلمون أن الكبار لا قاعدة تحكمهم وأن الصراخ والضرب جزء من تكوينهم وأن بعد العلقة نزهة وتدليل . كانت هناء تواجه نفس الموقف بشكل مختلف ، فهي تقول بحزم أن من أفسد شيئا عليه إصلاحه ، وتكلف كل طفل بما يناسبه من مهام العمل المنزلي ، وحين ينتهي الجميع من عملهم في تركيز وصمت ، تكون هي قد أعدت الطعام وحوله يتبادل الجميع الحديث في جو من المرح والحميمية مع توجيهات ليست ملحة ولا جارحة، وتأكيد أن الحفاظ علي النظام والنظافة مسئولية الجميع لأن البيت بيتنا جميعا . سألتها شيرين يوما عن سر انضباط أولادها وحبهم لها ولماذا فشلت هي في تحقيق ذلك رغم أنها تبذل جهدا أكبر وتحبهم من أعماقها ، فاجأتها هناء بسؤال مضاد : فلسفتك إيه يا شيرين ؟ وأكدت السؤال أمام نظرات جارتها المندهشة : ما هي فلسفتك ؟ كل إنسان هناك حكمة ما أو رؤية كلية تقف وراء سلوكه وتوجهه . يبدو أن حكمتك هي المنتشرة في مجتمعنا كله ( الضبط بالكراهية )، الحكومة تواجه الشعب بالقمع ، والناس تردد أن ابن آدم لا يجدي معه إلا الشدة ، يعني فلسفة عقابية بلا تراحم ولا تفاهم ، كما ترين القدرة علي التفاوض والتفاهم وهي أرقي ما يميز البشر تتراجع بشكل مخيف ، حتي أن خلافا بسيطا في الشارع يتحول بسرعة لمشاجرة كبري ، وداخل المدارس المخصصة للتربية قبل التعليم ينفجر العنف بين الطلبة والمدرسين وأولياء الأمور أيضا ، اختفي التسامح من الرياضة واندثر مصطلح الروح الرياضية لتصبح مجالا جديدا للعنف اللفظي والبدني ، حتي الغناء العاطفي والذي يتناول منذ القدم التغزل بمحاسن المحبوب والتعبير له عن الإعجاب والود صار تهديدا ووعيدا ، والأغرب أنه داخل بيوتنا وفي علاقاتنا الحميمة طغي الصراع علي الحب، ما إن تتزوج الفتاة حتي تسارع بطلب الطلاق عند أول خلاف ما لم يسبقها العريس إلي طلاقها بالفعل . قالت شيرين بمرارة : وما هي فلسفتك أنت ؟ ردت : الضبط داخل البيوت بالذات لا يكون إلا بالحب والقدوة الحسنة وعدم التذبذب في المواقف وحل الخلاف بالعقل ، ثم ينتقل بعد ذلك من البيت إلي خارجه ليشمل المجتمع كله ، أما الضبط بوسائل مكروهه مثل الضرب والشتائم والصراخ ثم الندم عليها وتراوح الحال بين الشد بقوة وترك الحبل علي غاربه ، فإنها لا تنتج تربية سليمة وتؤدي لاهتزاز الثقة بالنفس واضطراب الشخصية أيضا . الناس في كل مكان يحبون من يحترمهم ويتعامل معهم وفقا لقواعد ثابتة تطبق علي الجميع بمرونة وفي جو من المودة والرغبة الحقيقية في النهضة، وأعود مرة أخري إلي النموذج التركي في الإصلاح ، فلسفة الأتراك فلسفة علاجية إصلاحية تقوم علي الإبقاء والمحافظة علي ما فيه خير وتجديد وتغيير ما يحتاج إلي ذلك ، بوسائل تتسم بالرفق وتنمية القدرة علي التفاهم والتماس العذر ، والنتيجة مبهرة تغييرات جذرية تحدث في تركيا بهدوء وعقلانية . يقول المهندس ( غيث القضاة ) في مقالة له بعنوان ( فتيات تركيا ) ذهبنا للصلاة في أحد المساجد وأدهشنا أن مجموعة من الفتيات المتبرجات يدخلن المسجد ولكن أخرجت كل واحدة منهن لباس الصلاة من حقيبتها وارتدته ثم دخلت لأداء الصلاة ، الحكمة الإصلاحية تقوم علي الثقة بخيرية البشر وتستبعد الشك ، تقوم علي أن يحاول كل منا إصلاح أو بناء ولوجزءا يسيرا حتي نصبح كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، تقوم علي علاج المقصر والصبر عليه وتقبله وليس عقابه والتشهير به ، تقوم علي تنمية مهارات التفاهم والتعاطف لأنها اللحمة واللاصق الاجتماعي الذي يربط أفراد المجتمع ويجعلهم كيانا حيا منتجا ،يقول تعالي في كتابه الكريم علي لسان سيدنا شعيب ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت علي بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلي ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) 88 هود . [email protected]