خامرها شعور جميل فى هذه اللحظة وهى واقفة فى شرفة منزلها التى تطل على شارع واسع يعج بالسيارات ويصطخب بالحياة نهاراً بينما يبدو كبحر معدوم الأمواج ليلاً لا صوت فيه ولا حياة ، تصطف الأشجار على جانبيه فى لوحة فنية آية فى الابداع ، البيوت فيه أشبه بالمنازل الريفية التى لا تعلو عن طابقين وتتخلله بعض الدكاكين الصغيرة ومقهى قديم على ناصية الشارع ...
وقفت الجميلة ذات العينان العسليتان والشعر الاسود الداكن تنظر إلى الشارع الفسيح وفى عينيها نظرة الملهوف ، تسبح فى بحور من التفكير المتواصل لا يقطع عليها تلك الخواطر الجميلة إلا تلك النسمات الرقيقة التى تداعب شعرها الناعم المنسدل على وجهها وكتفيها ، تظهر عليها بوضوح علامات " العاشق الولهان " لكنها تحاول بشتى الطرق اخفاء ما يحمله قلبها من ولع وصبابة وما تحمله عيناها الجميلتان من الأمانى ... وقالت كأنها تخاطب قلبها الغارق فى قصص العاشقين :_ الحب شىء جميل ، طوبى للعشاق فهم يسبحون فى عالم تملأه العيشة الغضة والنفوس الصافية والقلوب الوضيئة... وفجأة وبدون سابق انذار ازدحمت فى رأسها الخواطر والاسئلة وقالت بصوت عالٍ .. ويحى ما الذى أفعله في هذه الساعة ؟؟ - كيف لفتاة مهذبة من عائلة محافظة مثلى أن تفكر فى ذلك؟؟ ماذا سيقول الناس ؟؟ - كيف اسمح لنفسى بكل هذه التجاوزات ؟؟ إن الحب كله محض هراء ... الحب شئ أحمق أشبه بالانسان المأفون ... وكلام العشاق ما هو إلا نقنقة ضفادع فى سكون الليل ... لا لا الحب لا يساوى قُلامة ظفر... كل ذلك أوهام فى أوهام ... سأدلف إلى الداخل حتى استريح من تلك النفايات الفكرية واغسل عن نفسى حماقتى التى جعلتنى استسلم لشئ سئ اسمه الحب .. دخلت الجميلة إلى حجرتها لكنها لم تستطع أن تخلع ما فى قلبها من وجد وصبابة ، ولم تستطع أن تخرج من كثرة التفكير فى الحب وقصص العاشقين .
وخاطبت نفسها .. _ آآه ان رأسى يكاد ينخلع ... يالمرارة التفكير ؟؟ لماذا أرى فى نفسى كل ذلك الشذوذ ، أنا انسانة أحمل شعوراً وأحاسيساً .. لما لا أحب .؟ لماذا أبخل على نفسى بهذه المتعة الربانية ؟؟ لماذا أعطى للناس وللتقاليد أكثر من حقهم وأضعهم فى اعتبارى كلما خطوت خطوة فى حياتى ؟؟ الناس لا تستحق ...كذلك التقاليد السقيمة لا تستحق ... أنا استحق أن أعيش حياتى كيفما اشاء ...ما الذى سيعود علىّ من آيات المديح وجميل الثناء من الناس ؟ ... إن ديدن الناس التكلم فى الغير سواء كان على خطأ أو صواب ... إذن سأكون حرة العقل ، طليقة القلب ، ولن أعتنى بكلام الناس ولن ألتفت للتقاليد ..
واستلقت صاحبتنا على الفراش... ممددة الأطراف ... وأطلقت العنان لخيالها ... وانطلقت بخيالها فى عالم من الأحلام وضربت بالواقع المفترس المستعر عرض الحائط ... وراحت تتقوقع داخل أحلامها وتنأى بنفسها عن ذلك العالم الهزلى العبثى الذى لم تر فيه إلا كل فظاظة وقساوة ... لكن الملل لم يتركها وقالت كأنها تنعى حياتها البائسة : هل كُتب علىّ أن اتعذب فى اليقظة ودهاليز الأحلام ؟؟ إلى أين أذهب ؟؟ هل أعود إلى اليقظة مرة أخرى حيث كلام الناس الممل والحياة الصاخبة التى لا أجنى منها إلا كل بؤس وشقاء ؟؟ أم ابقى كما أنا فى احلامى وآمالى التى ربما تفضى إلى لا شئ !! يالخيبة الأمل ، ويالضيعة الرجاء !!!
وبلغ الحزن مبلغه من هذه الجميلة فقد رفض القدر بكل برود أن يعطها جزء بسيط من حقها حتى فى احلامها بعدما سلب ذلك فى يقظتها .
فشرعت الجميلة فى النهوض من سريرها ، وأخذت تروح وتجىء داخل أركان الغرفة وقد أصابها شحوب شديد وتحول وجهها الصبوح الضاحك ذو البشرة المتوردة إلى وجه عابس لا حياة فيه وبدا عليه سيماء الحزن والارهاق !! وبدت كأنها تريد أن تصرخ وتقول :_ ماذا ينقصنى .؟ .ويح الأقدار العابثة التى لا تترك للجميلات مثلى متعة الحب ولا حتى التفكير فيه .. يالها من أقدار حمقاء تلك التى تقف للحيلولة دون تحقيق آمالى . وقطع حبل أفكارها إطار معلق على الحائط يحمل بداخله صورة لحبيبين متعانقين فى حرارة ... وارتسمت على وجهها ابتسامة حلوة كسرت حالة المعاناة والملل ... وانحدرت الفتاة مسرعة فى اتجاه الصورة وحملقت فيها .. تخيلت نفسها مكان هذه العشيقة ... وهى تحضن حبيبها حضن دافئ أشبه بحضن الأم لابنها الرضيع ... وذراعيها يلتفان حول عنقه .... وقد طبعت قبله رقيقه على خده ... وشعرت بيديه تتسللان على ظهرها وتستقر عند خصرها ... وأصابعه تتحسس شعرها الناعم المنسدل .... شعرت بنشوة لم تحسها من قبل ... فأغمضت عينيها ذواتا الرموش الجذابة ... ووضعت رأسها على كتفه وغابت عن الدنيا للحظات غرقت خلالها فى جلال ذلك المشهد الرائع الذى طالما حلمت به ولم تجده !!
ولازالت جميلتنا تبحث عن مخرج ولو فى خيالها لحياتها التعيسة المليئة بالرجعية والتخلف ... ورأب ذلك الصدع الذى أحدثه الناس فى نفسها الرقيقة فهم يمقتون الاحاسيس ويزدرون المشاعر .... فرأت فى هذه الصورة كل المشاعر التى تحلم بها الانثى من حلاوة الحب ، ولهفة العشاق ، لكن ذلك لم يشبع شغفها فى أن تعيش ذلك الاحساس الرائع الذى لن يأتيها إلا بسماع صوت محبوبها قبل منامها وفور استيقاظها ....