سيكون علينا إذن أن نرقب الحديث المتصاعد الآن عن كوته تخصص للأقباط بنسبة 15% من كل شىء ..وسيكون على أقباط مصر إذن أن يختاروا بين الحياة فى (الوطن) والحياة فى( كوته) ..وهو اختيار عدمى إذ ليس بعده.. بعد كما يقولون... وغير ذلك هو الاختيار الأخير.. الذي يختلف تماما عن (العشاء الأخير) الذي أوصى فيه السيد المسيح (بالمحبة )معتبرا إياها( العلامة الفارقة) قائلا: (بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كنتم تحبون بعضكم بعضا)..ذلك أن اليوم الذي سيتوزع فيه أقباط مصر على( كوته) هو بالفعل (علامة فارقة) لكنها ليست على طريق( المحبة ) بل على طريق الكراهية والشقاق والخصومة والعداء والتباعد والجفاء والجهل والغموض والقسوة اللافحة الغليظة. مؤخرا خرجت أصوات شبابية قبطية تطالب بالنص في الدستور الجديد علي تخصيص حصة من مقاعد البرلمان للأقباط وعقدوا مؤتمرا أكدوا فيه أن (التمييز الإيجابي للأقباط) هو الطريق الصحيح لتفعيل المواطنة.. وطالب احدهم ( ويصا فوزي) علي ضرورة أن يتضمن الدستور الجديد نصا لتمكين الأقباط من المشاركة في الحياة السياسية أسوة بالمرأة...
البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية أكد رفضه لمبدأ تخصيص كوتة للأقباط مؤكدا أن هذا سيؤدي إلي تقسيم الوطن وهو ما اتفق معه فيه اسحق حنا مدير مركز التنوير والدكتور شريف دوس رئيس الهيئة القبطية الذين أشارا إلي أن إقرار مبدأ الكوتة سيؤدي إلي ضياع حق الأقباط في خوض الانتخابات البرلمانية كمواطنين ..كما أنها تنتقص من حق الأقباط في المواطنة الحقيقية.. وتكرس لفكرة (الأقلية) وأضافا: نحن كأقباط نفخر بتاريخنا الوطني عبر العصور بأننا رفضنا التدخل الأجنبي بحجة الدفاع عن الأقليات أو الأقباط ..ولن نمنح الغرب هذه الفرصة اليوم. وأكدا أن حقوق الأقباط لن تأتي إلا عن طريق المواطنة الحقيقية كأبناء لهذا الوطن لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات..أو بالتعبير الأصولي الشهير(لهم ما لنا وعليهم ما علينا).
.............
بإطلالة سريعة على التطور النوعي لحالة الأقباط فى المجتمع منذ تأسيس مصر الحديثة(محمد على1805م )..نذكر الموقف العظيم للبابا بطرس السابع الشهير ببطرس الجاولى ..الذي أرسل له قيصر روسيا مندوبا عام 1805م ليكون أقباط مصر فى حماية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وبالتالي فى حماية القيصر الذي ما كان يعنيه الأقباط ولا المسيحية فى شيء ولكنه كان على عداء مفتوح مع الدولة العثمانية وقتها..وكانت أثار الحملة الفرنسية لازالت باقية الأثر والتأثير فى الإقليم الأخطر فى المنطقة..ثم إن التجربة النكدة للمعلم يعقوب والفيلق القبطي الذي انسلخ عن جموع المصريين وانضم للحملة الفرنسية كانت قريبة.. الحاصل أن المندوب الروسي قابل غبطة البابا بطرس السابع مبديا له ألمه على حالة الأقباط فى مصر وعرض على البابا أن يتولى قيصر روسيا حماية الأقباط ولكن البابا الكبير الرصين كان أكثر حكمة فرفض العرض فورا بدافع عميق وصادق من الوطنية الحقيقية وانتمائه وكنيسته لتاج الشرق.
المندوب الروسي بعدها قابل محمد على الذي سأله عن أكثر شئ أعجبه فى مصر..(ولك أن تتخيل فحوى السؤال ومغزاه وكيف كان يشعر محمد على بهذه البلاد..بل كيف استقبل مندوبا عن القيصر الذي كان فى عداء مع الدولة العثمانية التي تتبعها مصر؟) فذكر الرجل أن أكثر شئ أعجبه هو بطريرك الأقباط.. وحكى لمحمد على عن موقف البابا بطرس الجاولى من الحماية القيصرية فما كان من محمد على إلا يصطحب معه ابنه إبراهيم ..ويذهب بنفسه إلى البابا بطرس السابع فى مقر إقامته ليقول له( لقد رفعت اليوم من شأني وشأن بلادك.. فليكن لك مقام محمد على ولتكن لك مركبة معدة كمركبته).
فى عام 1855م فى عهد الخديوى سعيد(ابن محمد على)و الذي أحدث انقلابا في بنيان المجتمع المصري كله..صدر قرار بإلغاء الجزية وتجنيد الأقباط فى الجيش المصري..الخديوى سعيد أصدر عام1858 ما عرف ب(اللائحة السعيدية) التي أباحت حق الملكية الخاصة للأطيان وحرية التصرف فيها!(ما أصبركم يا مصريين!!) فأقبل المصريون علي حيازة الأطيان لتتشكل منهم طبقة الأعيان كما توسع في تعيين المصريين في الوظائف الكبرى (حتى يخدم الشعب المصري بلاده خدمة نافعة ويستغني بنفسه عن الأجانب..) وفى رسالة دكتوراه قدمها الباحث أيمن محمد محمود بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 2008م وتحت إشراف الأستاذ الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ والتي أكد الباحث فيها أن رسالته تعتمد على توضيح أن (الشريعة الإسلامية تنص على المساواة بين المسلمين وغير المسلمين )مشيراً أن أسباب فرض الجزية قد زالت بدخول الأقباط للجيش وتسويهم في الواجبات مع المسلمين واستعان بآراء بعض المفكرين المسلمين مثل الأستاذ الشهيد حسن البنا الذي قال أن (الجندية بدلا من الجزية وبالتالي لا مكان لفكرة فرض الجزية على الأقباط في ظل تغير الأوضاع وظهور مبدأ المواطنة الذي لا يميز بين الأديان وأن من يناقشها يعود بنا إلى عصور الجهل الذي لا يتناسب مع العصر الحالي.) ...ومما يذكر أيضا للأستاذ البنا أنه ضم لعضوية اللجنة السياسية فى جماعة الإخوان المسلمين أربعة أقباط (وهيب دوس و يوسف أخنوخ و كامل فانوس و ميريت غالي)..ولم يكن ذلك ذرا للرماد فى العيون بل كان داعيا وطنيا صادقا من رجل رائدا فى وطنه ..صادقا فى نفسه وقومه.. أثناء الإعداد لدستور 1923م ضمت لجنة الثلاثين المشكلة لوضع دستور 1923 الشهير..الأنبا يؤانس مطران الإسكندرية وقليني فهمي والياس عوض وتوفيق دوس.. وطلب حينها توفيق دوس وضع نظام للأقليات يضمن تمثيلها النيابي ..وكان بالطبع يشير إلى الأقباط ..فما كان من الأستاذ (سلامة ميخائيل ) عضو اللجنة المركزية للوفد إلا أن شن هجوما ضاريا عليهم جميعا قائلا (وليس على الأقباط أن يخشوا من عدم انتخابهم ولا ضرر من عدم انتخابهم بل الضرر أن يمثلوا بوصفهم أقلية فيوجدون فى وسط عدائي).. وحين علم الملك فؤاد وقتها بمشكلة تمثيل الأقليات فى الدستور انزعج بشدة واستدعي قليني فهمي وطالبه أن يثني متبنيها عن إثارتها أو التمسك بها.. لأن هذا يعد تمييزا وتشجيعا علي انقسام المصريين إلي طوائف .. وهو ما يهدد وحدة الوطن وتماسكه ..بعدها كتب قليني باشا مقالا في الأهرام عارض فيها الفكرة المقترحة في لجنة الدستور وأكد في المقال أنه من الخير للبلاد أن يظل أبناؤها جميعا خاضعين لقانون واحد وسلطة واحدة حرصا علي وحدتها القومية.
ولا يمكن للمصريين أن ينسوا للبابا كيرلس السادس (1959-1971م) دعوته للأقباط بتسمية أبناؤهم بأسماء مشتركه بينهم وبين إخوتهم المسلمين.._حين تكون رحابة الصدر أهم من ارتفاع الهامة_ولكن أن تتخيل ما نحن فيه من تراجع وتردى حين نسمع الآن كلمة(كوتة للأقباط) ويمكن الرجوع للمؤرخة ايريس حبيب المصري فى كتابها (البابا كيرلس السادس فترة من البهاء) لنعرف أكثر عن هذا الرجل الذي لازالت ذكراه عند المصريين معطره منداه بكل ما هو وطني وشريف ونزيه.(إن الذين أعطيتني لم أهلك منهم أحدا).
..............
تاريخ (الأمة المصرية الواحدة) يحوى لنا نماذج أكثر إشراقا وعظمة لكن المقام يضيق ..على أنى احمل عتابا ودودا لشباب الأقباط وأنا أعلم _شخصيا_ أن اغلبهم إن لم يكن جميعهم يتبنون فكرة الكوتة ويذكرون فى ذلك أسبابا جديرة بالاستماع والانتباه ..وهم _إنصافا للحقيقة_ يرون أن هذه الكوتة ستكون تناقصية يتم إلغاؤها بالتدريج .. وهو موقف فى كل الأحوال لا ترضاه لهم مليكة الشرق ذات الهرم والنيل.. حتى وان كانت له دواعيه المؤقتة ..حفاظا على وجه الوطن من لحظة خجل واحدة أمام التاريخ جراء ذلك ..
والحل الأصوب والأمثل وإن بدا صعبا وطويلا هو( الانخراط والممارسة )تاركين للأجيال حقها فى مراكمة التجربة تلو التجربة وصولا إلى المساواة التامة.
وهذه نصيحة من لا يبتغى بدلا بكم ** وهل بعد قوم المرء من بدل .