فهم الدين ليس حكراً عليكم أيها المتأسلمون" "لا تحتكروا الحديث باسم الدين" "لك عقل ولي عقل، فلا تدّعي أنك وحدك الذي تملك الحق" كثيراً ما يُتَّهم الإسلاميّون بمثل هذه العبارات، اعتقاداً من قائليها أنه لا يمكن لأحد من التيارات الإسلامية - مهما كان معه من أدلة - أن يقطع بأن رأيه أو معتقده في مسألة ما هو الحق، وأن رأي غيره أو معتقدَه خطأٌ. وعلى هذا فإنه من وجهة نظرهم لا يحق لتيارات الإسلام السياسي أن تجزم بأن الدعوة إلى تحكيم الشريعة وضرورة اعتبار الهوية الإسلامية للدولة، هي الحق، لأن هذه الرؤية يختلف معهم فيها كثير من الناس، ولا يجوز لأحد أن يدّعي أن الحق معه وحده. لأن ما تراه حق وعدل في عينك، قد لا يكون كذلك في عين شخص آخر. المناقشة تكمن خطورة هذه التهمة، في أنها تعدّ وسيلة سهلة لردّ أي حق قطعيّ جاء به الوحي الإلهي، إذ ما على المخالفين إذا ما عجزوا عن طمس وإبطال حجج أهل الحق، أن يدّعوا أنه لا أحد يمكن أن يحتكر الحقيقة. (تنبيه: لسنا هنا بصدد الحديث عن الخلاف السائغ في فروع الدين ومسائل الفقه وغيرها، فهذه لها موضع آخر، وإنما حديثنا هنا في باب القطعيات من الدين في العقيدة وأركان الإيمان والإسلام، أو في أصول التشريع، ووجوب التحاكم للقرآن والسنة) إن ما يقولونه شبيه بما عُرف اصطلاحا عند بعض الفلاسفة قديماً ب "الحقيقة النسبية"، أي أنا ما تراه حقاً (حتى لو كنت تقول أنه وحي إلهي).. قد لا يراه غيرك كذلك.. لذا ينبغي عليك ألا تجزم بأن رؤيتك للأمور هي الحق يقيناً. ما يلزم من القول بنسبية الحقيقة: إن القول بنسبية الحقيقة يردّ دعوة جميع الأنبياء، لأنه لو لم يكن هناك حقيقةٌ مطلقة، لما كان لأمر الله باتباع الحق ورسل الحق، أي معنى؟! لأنه على تلك النظرية، سيصبح الحقٌ لا وجود له إلا في الأذهان، أما في الواقع فهو نسبيٌ يصح أن يكون حقاً في عقلٍ، باطلاً في عقل آخر. وبالتالي ما كان لله أن يُهلِك الأمم السابقة على تكذيب رسلها، إذ إنهم كانوا يعتقدون أنهم على الحق حينما كانوا يكذبون رسلهم! الحق واحد لا يتعدد: إن من المتقرر عقلاً وشرعاً أن الحق واحد لا يتعدد، فالعقل الصحيح لا يُمكن أن يقول بأن الشيء ونقيضه كلاهما حق، وأنك إذا أردت أن تسافر إلى مدينة في الشرق مثلاً؛ فإنه بإمكانك أن تسلك طريق الشرق أو طريق الغرب لتصل إليها.. هذا من ناحية العقل. أما من ناحية الشرع.. فنصوص الشريعة المطهّرة متضافرة على أن الحق وحده هو ما جاء به وحي الله، وأن ما عداه فهو باطل. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وأنه من تجاوز الحق فقد وقع في الباطل لا محالة، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ..}. ما هو الحق القطعي الذي يراه الإسلاميون؟ الحق القطعي الذي يراه الإسلاميون هو ذلك الحق الواضح الذي لا لبس فيه، مما بينه الله في كتابه ووضحه رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأجمع عليه الصحابة ومن بعدهم من علماء المسلمين؛ بحيث إنه لا يقبل شكا ولا ترددا، وهو: أن الله عز وجل هو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا شريك له في ملكه وحكمه. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وأنه رسول الله للعالمين. وأن الدين الذي لا يقبل الله من العباد غيره هو دين الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وأن وحي الله المتمثّل في القرآن الكريم وسنّة نبيه، إنما هو هداية وإرشاد للبشر. وأن أوامره ونواهيه موجهة للفرد والجماعة والأمة، مما يؤكد أنه منهج كامل للحياة. وأن رفض التحاكم إليه ينافي مقصود الله من خلق السماء والأرض وإرسال الرسل؛ بل هو ينافي الإيمان {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. فما سبق ليست أحكاماً اجتهادية يستنبطها البشر باجتهادهم في تأويل نصوصها، بل هي آيات بيناتٌ صريحة الدلالة لمعنى واحدٍ لا تحتمل معانيَ أخرى، فلا يسوغ فيها الاجتهاد.. إذ لا يجوز أن تكونَ في عقلٍ ما حقّاً صواباً وفي عقل آخر باطلاً. الآثار السلبية الخطيرة لهذه التُّهمة: - زعزعة يقين عامة المؤمنين، وكما هو معلوم في العقيدة الإسلامية، أنه لا يصح إيمان المسلم إلا إذا أيقن يقيناً جازماً بأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله وباقي أصول الإيمان هو الحق الأوحد الذي لا يقبل الله من عباده سواه. ولهذا تعرّف العقيدة بأنها: "الإيمان واليقين الجازم الذي لا يتطرَّق إليه شكٌّ لدى معتقده" - اعتقاد صحة الديانات المحرفة أو الباطلة، وفي هذا تكذيب لآيات القرآن الكريم التي تبين أن الإسلام هو "الحق" وحده؛ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} - اعتقاد أن الحق قد يكون عند المنادين بتنحية الشريعة عن الحياة، وغيرهم من الفرق المخالفة لم أجمع عليه الصحابة ومن بعدهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم أن أهل الإسلام يفترقون إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة . فلما سئل : من هي ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي". - معاداة أهل الحق المتمسّكين به، باعتبار أنهم قد جنوا على الآخرين، حينما قالوا أن اعتقاداتهم باطلة، حتى ولو كان ذلك بمستند شرعي قطعي. - تسويغ الأعمال المخالفة لتعاليم الإسلام، وإعطاؤها نوعاً من القبول الذاتي والمجتمعي، وكل هذا تحت مبدأ: كل فرد ربما يكون على حق. وأخيراً ينبغي التنبُّه إلى أن اختلاف العقائد والرؤى لا يعني انعدام التعايش السلمي مع المخالف، إذ إن السماحة في التعامل مع الخلق هي سمة المسلمين، لكن التسامح مجاله المعاملة وليس العقيدة، والفرق بين الاثنين كالفرق بين السماء والأرض. (وللحديث بقية بإذن الله) إبراهيم لبيب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.