أول ذكري موجعة احتفظت بها ذاكرتي في فترة الطفولة كانت هزيمة 67 وهي ماعرفت فيما بعد بالنكسة ، ولدت في أوج عصر عبد الناصر وتشبع وجداني بكل ما يشيد بالثورة باعتبارها تجب ما قبلها وعلي أبناءها أن يكونوا فخورين بميلادهم في العهد الجديد ، هناك ظلال من خطب الزعيم و أغاني الثورة المفعمة بالفرح والعزة بكلمات راقصة لصلاح جاهين ( صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة ) في المدرسة والبيت وعبر الإذاعة والتلفزيون كانت هناك موجة عارمة من النشوة والتفاؤل بحكم الشعب نفسه بنفسه وكانت الآمال كبيرة جدا . كان عبد الناصر في وجداني ليس رئيس الدولة فحسب بل الزعيم والأب الروحي وأحد دعائم الانتماء مثل الأب والأم ومثل الوطن ، أتذكر بوضوح انهيار الحلم الآمن وأنا أستمع لأحد أقاربنا العائد سيرا علي الأقدام من ميدان النكسة وبمساعدة بدو سيناء وهو يحكي منكس الرأس ( لم نحارب بل سحقنا وضربنا وهربنا بشكل عشوائي ) وهو ما عبر عنه أحمد فؤاد نجم في صورة تقطر بالسخرية المريرة : الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا محلا رجعة ظباطنا من خط النار انكسر الحلم وتهاوت الآمال وصار اليهود علي بعد ( فركة كعب ) من القاهرة واستقبلت مدرستي فتيات مذعورات مهجرات من مدن القناة وخاصة السويس وتآلفت مع إحداهن وما زالت حتي الآن من أقرب الصديقات لقلبي ومن خلال أسرتها التي فقدت عائلها وبيتها وممتلكاتها وتغيرت أحوالها بشكل مأساوي عرفت مرارة الهزيمة ، فهي ليست في أرض المعركة فقط بل تمس المدنيين الآمنين وتعصف بحياتهم وتغير مجراها ، كانت لي زميلة أخري وقع والدها الضابط في الأسر وطالت معاناتهم في البحث والانتظار ، كان أثمن ما فقده الناس هو الإحساس بالثقة واليقين وهو ما لم يستعيدوه حتي اليوم فقد صار الشك لديهم هو الأساس حتي لو ثبت العكس . ثم هلت نسمات منعشة ندية مع دخول أكتوبر 73 وكنت قد التحقت بالمرحلة الثانوية وهزني النصر وكانت كلمة السر فيه ( بسم الله الله أكبر بسم الله ) كان نصرا من عند الله بالفعل واستعادت مصر كرامتها وأرضها السليبة وعادت الزميلات بفرحة عارمة لمدن القناة وأدرك الناس أن الانتماء والأمان والاستعانة لا تكون إلا بالله وبعدها مباشرة بدأت بشائر الصحوة الإسلامية علي كافة المستويات . بعد سنوات طويلة قدر لي زيارة سيناء والإقامة في العريش ورفح والمرور بالأرض التي كانت محتلة ووقتها عرفت أنه فعلا كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( ليس المخبر كالمعاين ) فأن تعرف أن سيناء محتلة شئ ، و أن تمشي في أرضها وتتأمل شواطئها ومزارعها و أسواقها وتخالط سكانها شئ آخر ، تلك البقعة الشاسعة الرائعة الحبيبة كان اليهود يسيطرون عليها ، هذا هو معني الوطن كما صوره الشاعر أحمد مخيمر : وطني وصبايا وأحلامي وطني وهواي وأيامي ورضا أمي وحنان أبي وخطي ولدي عند اللعب يخطو برجاء بسام الوطن الأرض التي تساقطت عليها أيامي و رذاذ عمري وتفاعلت معها حياتي وترددت في جنباتها ضحكاتي وتحملت صدي أحزاني ، حتي والدي الذي توفاه الله تحتضن أرض الوطن رفاته لتصنع لي جذرا أستند عليه وأولادي هم الآمال المعلقة بقلبي تحت سماء الوطن . ربما يستهين الشباب بتلك المعاني ولكنهم يوما ما سيقدرونها ، إنهم فقط فرحانين بشبابهم ولم تحفر المعاني العميقة أخاديدها في قلوبهم بعد، والدليل علي ذلك ما فعله ابني ( عبد الله ) تخرج هذا العام من كلية الهندسة وهو شاب متعدد الاهتمامات يعشق التاريخ الإسلامي ويحفظ مساجد القاهرة العريقة وتواريخها ومعالمها ويحب أزقتها و أفنيتها وكثيرا ما عرض علي أن يصطحبني في رحلة يكون مرشدي فيها ولكني أؤجل دائما . هذه الأيام انتقل اهتمامه فجأة لنصر أكتوبر العظيم ، وهو مندهش من كل ما يقرأ ، يقول ( لقد كان العرب والمسلمون يدا واحدة في الحرب ) ( كان هناك جنود من الجزائر و طائرات من العراق معنا ) ( الدور الرائع للملك فيصل رحمه الله وسلاح النفط ) ( حتي شاه إيران أمدنا بالبترول ووقف جانبنا ) ( روح أكتوبر الإيمانية التي أطاحت بعقل اليهود ولقنتهم درسا قاسيا ) ( تفاصيل العبور واقتحام خط بارليف ) كل يوم يكتشف شيئا لم يكن يعرفه فينعش ذاكرتي ويسعدني بانتمائه لوطنه ، ما يجمعني به ليس البنوة و الأمومة فقط ولكن أيضا الوطن ، وهو ما يجمعني بكل الناس الذين أقابلهم في الشارع والأماكن العامة وأشعر برابطة عميقة نتواصل من خلالها اسمها الانتماء . حياك الله يا نسمات أكتوبر الندية وأمدك الله بالعافية والنهضة والرفعة يا وطني الحبيب . [email protected]