مصر لا تكون "أم الدنيا"، بالشعارات، ولا بالأشعار، ولا بالنثريات، ولا بأغاني التدليس المسماة بالوطنية، ولا بالمؤتمرات والندوات والمحاضرات التي تنتهي بالتهام الطعام والشراب ثم الانفضاض ، ولا بالخطب الرسمية الجامدة ذات الكلمات المرصوصة الخالية من الروح والواقع والحقيقة، مصر" أم الدنيا " بالديمقراطية، والحرية، والكرامة الإنسانية، واحترام آدمية المصري، وبالتعليم العصري، والابتكار، والاختراع، والتصنيع، وبجوائز نوبل لعلماء في جامعات مصرية، وليس أمريكية أو أجنبية ، وبعيش كريم وعدالة اجتماعية تخرج المصريين من ذل الفقر والحاجة والمرض وانحناء الظهر الذي كاد ينكسر، وبمؤسسات حقيقية لا تعلو فيها مؤسسة أيا كانت على أخرى، أو على الدولة، وبمساواة تامة وصارمة بين المواطنين لا يرتفع فيها أحد على أحد إلا بالكفاءة والجدارة، وليس بالواسطة والمحسوبية والرشوة، وأن هذا مسنود، وذاك له ظهر، وهذا ابن فلان، وذاك ابن علان، فهذا وذاك هو ما يضعف قيمة الولاء والانتماء والمبادرة والعمل الجاد المتقن وينشر الكسل والإهمال واللامبالاة والتواكل والإتكالية ويتسبب في ترويج مقولات " وأنا مالي"، " هي بتاعتنا "، " ريح دماغك "، " ياعم سيبك "، وإلى آخر منظومة اليأس والتيئيس والاحباط ، ومثل هذا المناخ والمجال هو أحد أسباب تأخر مصر عن ركب الدول والأمم التي نهضت حتى من دون ديمقراطية كاملة. لست ضد كل الأوصاف الجميلة والرائعة عن بلدي مثل " أم الدنيا "، و" أد الدنيا " وأعظم حضارة قديمة، وأول وأقدم دولة مركزية في التاريخ، وبلد الأهرامات وأبو الهول والمعابد وأرض الانبياء والتدين والتوحيد وقاهرة الغزاة والمحتلين وعمق العرب والشقيقة الكبرى لهم ومركز العالم الإسلامي وبلدالأزهر الشريف وغير ذلك من كلام طيب، لكنه كله ماض عظيم تليد، والمستقبل لا يقوم على الماضي فقط، بل يحتاج إلى حاضر مرتبط بالحاضر، ونحن تخلفنا كثيرا عن حاضر العالم المتقدم اليوم، بل عن حاضر من كانوا مساوين لنا في ظروفنا أو أقل منا في التاريخ والحضارة والفكر والعلم والانجاز. لن اختلف مع من يقول إننا علمنا الدنيا ، هذا كلام جيد، لكن لا محل له اليوم من الإعراب طالما بقيت مصر تحيا يوما بيوم بنفس وضعيتها المرضية المزرية من دون تقدم ولو خطوة واحدة للأمام على طريق تفكيك البنية الفكرية الجامدة التي تحكمها في السياسة والاقتصاد والعلم والدين والمجتمع والفكر والثقافة والفن، لابد من الخروج من حالة الجمود إلى التطور والانفتاح وضرب الموروث القديم الذي لم يعد صالحا لهذه الأيام، ووضع مشروع فكري نهضوي يتجاوب مع زمن العولمة وينفتح على العالم كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه دون أية حساسيات أو عقد طالما في ذلك عوامل النمو والارتفاع والارتقاء. لكن طالما نحن المصريون - سلطة وشعبا - سمعنا وزيرا إماراتيا يقول لنا: كفى، لن نساعدكم طويلا، وابتلعنا الإهانة، ولم نقل حي على العمل، وليس حي على صراع السلطة والمناصب والنفوذ والنهب والفساد والإفساد، فلا يحدثني أحد عن " أم الدنيا " و " أد الدنيا " وغيرها من الشعارات التي تستجلب عطف الجمهور لمآرب وغايات معينة. بالمناسبة، هذا الوزير محق في كلامه، ولست ضده ، فهذا القول يُفترض أن يستفز همة وحمية مصر والمصريين لنقول إننا سنعتمد على سواعدنا لبناء أنفسنا والموارد موجودة وهي تحتاج فقط إلى تنميتها وحسن الإدارة والتشغيل وتعظيم الاستفادة منها، ولنقول إننا سنخلق أفكارا جديدة مبدعة متحررة منطلقة للخروج من التقليدية والصندوق الحديدي الصدئ إذا كنا نريد عبور أزمة طويلة ممتدة متراكمة معقدة. وقبل الوزير الإماراتي جاء كلام مماثل من وزير سعودي ، وإذا كان قد نفاه فيما بعد إلا أن معناه صالح وقائم وضروري ولا يضايق ولا يزعج، بل هو كلام مطلوب، فلا يُعقل أن تظل مصر عالة على هذا، أو ذاك، فلن يكون قراراها المستقل في يديها طالما تمد يديها للخارج، ومن يقول غير ذلك فهو يواصل لعبة الشعارات الفارغة الخادعة المهلكة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.