من حسن الحظ ومن سوءه في ذات الوقت أننا أبناء حضارة سبعة آلاف عام، فالموروث الحضاري في شخصية الإنسان المصري قوي جدًا، الصفات الجيدة في شخصية الإنسان المصري والصفات السيئة فيه كلاهما راسخ جدًا، فالعود المستقيم عندنا مستقيم منذ سبعة ألاف عام لا يعوج بسهولة، والعود المعوج عندنا معوج منذ سبعة آلاف عام، فلا يستقيم بسهوله.
ومن أسوأ الصفات في شخصية الإنسان المصري والتي إعوجت عبر آلاف السنين هي تأليهه للفراعنة والحكام، حتى سجلتها الكتب السماوية عليه، ومنها قول الحق سبحانه وتعالى "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ "، " وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ، يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ".
وعلى هذا فالعادة ليست جديدة، بل هي أصرح عاداتنا السياسية، نفعلها بكل حماسة مع حاكم وراء حاكم، نرفعه إلى السماء، فإذا إنتهى عهده رفعنا من بعده، فعلناها مع عشرات وعشرات من الحكام، حولناهم من حكام إلى فراعنة، ومن بشر إلى آلهه، بإستثناء حالات قليلة لم نفعل معهم هذا، ومنهم د. مرسي، ولعل ذلك مرجعه أننا لم نغفر له أنه رئيس منتخب، نحن الذين أتينا به ولم يفرض علينا، لم نغفر له هذا أبدًا، ليس ابن 52% هو من يستحق أن نؤلهه، عندما يأتينا بإجماع شعبي قوامه 99% فقط يمكننا أن نفعل، ولا نريد رجلًا عاديًا، فقط أصحاب الكاريزما التي يذوب فيها الشعب في حاكمه !!، ويصبح هو (الرجل) الوحيد و(الدكر) الوحيد في البلاد !!، هذا هو !!.
فهي ظاهرة غير جديدة، لكن الجديد جدًا هذه المرة هو هذا الحجم من التأليه، وهذه السرعة في التصعيد لفرعون مصر الجديد، مما يدل أن عملية (مخلقة) وليست (طبيعية) تأخذ وقتها المعتاد، فخلال أسابيع قليلة أصبح الأبعد هو (دكر) مصر الوحيد !، وهو (صلاح الدين) الجديد !!، و(عبد الناصر) الجديد !!، و(ايزنهاور) الجديد !! (أي والله وصلوا لصلاح الدين ولأيزنهاور) !!، ثم وصلوا - كما قال أحد أعضاء لجنة وضع الدستور- أنه (رجل الأقدار)، وهو اللقب الشهير الذي أطلق على (نابليون بونابرت) !!.
ثم نشرت جريدة الأخبار مقالة للمدعو أكرم السعدني يوم 20 أكتوبر عنوانها (السيسي والمتفلفسون) يختمها بقوله (اما انت يا سيدي الفريق أول عبدالفتاح السيسي فاسمح لي ان اعيد علي أسماعك ما قاله احد الشعراء للخليفة الفاطمي - وكانت البلاد تمر بظروف دقيقة - قال الرجل: ما شئت.. لا ما شاءت الاقدار فأحكم فأنت الواحد القهار فكأنما انت النبي محمدا وكأنما انصارك الانصار )
وهكذا إنتقل من (رجل الأقدار) إلى (قاهر الأقدار) !!، حيث مشيئته هو لا مشيئة الأقدار هي النافذة، وحيث ندعوه ليحكم فهو الواحد القهار (تعالى الله عما يقولون علوا كبيرًا) !، عندما قيلت هذه الأبيات للخليفة المعز لدين الله الفاطمي أسرع بإظهار عدم الرضا عنها وعاقب الشاعر الذي قالها، ورغم كون هذا الخليفة شيعي إسماعيلي متطرف فاسد العقيدة إلا أنه لم يقبل أن يشبه بالله ورسوله، فجاء اليوم الذي تقال فيه تلك الأبيات في بلد الأزهر، يكتبها فاسق، فيجيزها فاسق في إدارة التحرير وفاسق آخر في رئاسته فتنشر في الجريدة، ثم يرتضيها الطاغية الذي لابد أنها وصلته خاصة مع الضجة التي أحدثتها، فلا يظهر الغضب لله وهذا أضعف الإيمان كما فعل الخليفة على فساده، ولا الجريدة تعتذر، ولا ينكرها أحد من أتباع الطاغية ولا ينكرها الأزهر!!.
هي محنة، إمتزج فيها القتل والغدر والتنكيل بالأطهار والبطش والفرعنة والتأليه، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وهذا بما كسبت أيدينا وما ربك بظلام للعبيد، لكنني أقول لسيدي الجنرال، فلتدعى (رجل الأقدار) أو (قاهر الأقدار)، في الحالتين النهاية سوداء، فإن كنت رجل الأقدار كبونابرت الذي قتل وغدر وخان الثورة وأستباح الحرمات، فالنهاية كسير ذليل، وإن كنت (قاهر الأقدار) فأنظر ماذا تفعل بك الأقدار ومن بيده مقاليد السماوات والأرض، " وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ".
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.