مصر- وأقصد بمصر القائمين عليها، المتحكمين في أمورها- لا تعرف قيمة ما أنعم الله بها عليها من نعم، تتصرف فيها على نحو يضر بحاضرها ومستقبلها. فقد بددت ثرواتها كما يعبث الطفل بلعبه، بددت أراضيها بالبيع تارة وبالتجريف تارة أخرى، أهملت نيلها، وحتى ما تخبئه الأرض تحتها تهديه إلى ألد أعدائها. حتى ثروتها البشرية تحسبها نقمة وليس نعمة لعجزها عن استغلالها كما تستغلها بلاد تفوقنا تعدادا. وسأضرب مثالا يوضح كيف تتعامل مصر مع قطاع هام من القوى البشرية، وأعني به علماءها الذين انفقت عليهم لتعليمهم ليساهموا بعلمهم في صنع أي شئ طيب على هذه الأرض، وما هو رد فعل علمائها... أو بالأحرى ابنائها. أنهى أحد شباب المبعوثين إلى إحدى دول فيما وراء البحار بعثته الدراسية، وعاد إلى مقر عمله بإحدى الكليات الجامعية. ولم تمر بضعة شهور إلا وتقدم- بكل جسارة- بطلب التصريح له بإعارة إلى إحدى دول الريال أو الدرهم... ليس سعيا وراء لقمة العيش، وإنما ليقتني سيارة، وليشيد بيتا أسمنتيا، وليحتفظ برصيد في المصرف، رغم أنه في مقتبل العمر وأمامه مستقبل يرجى منه خير. أهكذا قدر مصر...! عليها أن تعزق الأرض وتبذر الحب، وتتعهد البادرات بالرعاية مع الصبر، وعندما يحين موسم الحصاد يسبقها غيرها إليه، ولا يكون لها نصيب مما عملته أيديها. هذا الشاب أعطته مصر فرصة قلما تتوفر لغيره، ومع ذلك يضن عليها برد ولو جزء يسير من جميلها عليه. قد يكون هذا الشاب معذورا في طلبه بسبب التغير الفجائي الذي دهمه. فقد كان بالأمس ينعم هناك بعيشة لينة، واليوم لا يجد ما يكفيه من مقومات الليونة. يحتج بأنه ليس أول الأشحاء على بلدهم، ويمن على البلد بأنه عاد وكان باستطاعته ألا يعود. فهل أخطأت مصر حين منحته الفرصة! لا وصف لهذا الموقف إلا الجحود والنكران، والأنانية وعدم الولاء. أليس من الواجب على هذا الشاب أن يشارك زملاءه وأن يخفف عنهم بعضا من أعمالهم. ومرة أخرى، قد يكون هذا الشاب معذورا لأن مصر تقتر على علمائها تقتيرا ليس له ما يبرره إزاء ما نشهده من بزخ وإسراف فاقا كل تصور على أمور لا يرجى من ورائها نفع. ولكن يقدح في عذره أولا، أنها لم تختصه بالتقتير، وثانيا أنه هو الذي اختار هذه الطريق بمحض إرادته، ويعلم أيضا أن للإعارة أدبيات عليه الالتزام بها. لا يظن أحدكم أننا نقسو أو نتحامل، بل نبصر ونحق الحق. ومع مغريات الجامعات الخاصة والمعاهد العليا الخاصة القائمة في مصر زاد إلحاح أعضاء هيئة تدريس الجامعات الحكومية للسماح لهم بالإعارة إليها. ومع مغريات المؤسسات التعليمية الخليجية التي يأتي ممثلوها إلى القاهرة لانتقاء ما يحلو لهم من عناصر شابة طازجة وكأنها بلا ولي أو صاحب ازداد الموقف صعوبة، وتنامى الضغط إلى درجة أن بعض الجامعات الحكومية- للأسف وللخيبة- اتخذت قرارات عاطفية بالسماح بالإعارة دون النظر إلى ما ورد بالقانون المنظم للجامعات من ضوابط زمنية. هذه القرارات العاطفية العشوائية ستكون نتيجتها تجريف الجامعات من شبابها، في الوقت الذي تعاني فيه كثير من الكليات الجامعية نقصا بينا في أعضاء هيئة التدريس، وفي الوقت الذي قضى فيه القانون "الشهابي" بتكهين شيوخ الأساتذة، وفي الوقت الذي يطرد فيه المعيدون والمدرسون المساعدون. لا يوجد بلد يتصرف في قوته البشرية الواعية المتعلمة على هذا النحو المؤسف، بتركها نهبا لكل مستغل ولكل طامع. لا يوجد بلد ينفق ما تنفقه مصر على إعداد علمائها، ثم لا تعرف كيف تستفيد منهم، وتقدمهم إلى غيرها على أطباق من ذهب وفضة بلا مقابل. ما الحل! لقد طالبنا من قبل في غير مقال بأن تؤدي الجامعات والمعاهد العليا الخاصة- وقد قامت بلا كوادر لتسطو على كوادر الجامعات الحكومية- بدل انتفاع عن كل عضو هيئة تدريس يعار إليها. وبالفعل ظهرت مؤخرا إرهاصات تدل على الاستجابة لهذا المطلب المنطقي العادل، على أن تستخدم المبالغ المحصلة في إصلاح حال الجامعة المصرية. والمضحك أن بعض الجامعات الخاصة رفضت تأدية بدل الانتفاع لعظم أعداد ما استحوذت عليه بغير حق من علماء الجامعات الحكومية، والمؤكد أنها سترضخ للعدل حين ينسحبون منها ويعودون إلى أصولهم. ويبقى مطلب آخر... وهو لابد وأن تخضع الإعارة لأية دولة عربية أو غير عربية لنفس المنطق. الإعارة نظير بدل انتفاع يؤدي إلى خزانة الدولة. فلا يصح أن نقتر على ما عندنا من جامعات ومعاهد خاصة ونسخوا على غيرهم. كما ولا يصح أن نترك ابناءنا فريسة لهؤلاء القوم، يبتزونهم ويساومونهم ويعاملونهم معاملة السيد للعبد. يجب أن تتم الإعارة عبر وزارة التعليم العالي ووفقا لتسعيرة معروفة ولمدة محدودة لإعطاء الفرصة لأكبر عدد من الراغبين في الإعارة. وأذكر أن نظاما كهذا كان متبعا فيما مضى. وليس أدل على الابتزاز والمساومة من أن بعض دول الخليج تتعاقد مع الاستاذ على انه استاذ مساعد، ومع الاستاذ المساعد على أنه مدرس، بما في ذلك من إهدار للكرامة وإذلال للنفس. العلم يجب أن يكون عالي الرأس كالعلم، وليس مصادفة أن تكون الحروف واحدة في الكلمتين (العلم والعلم) مع اختلاف التشكيل فوق حرف العين واللام الوسطى. يا مصر... صوني ثرواتك البشرية، ويا سيادة وزير التعليم العالي... أنت الأمين عليها، فهى معين متجدد... لا ينضب.