كان هذا هو السؤال الذي طرحه علي صديقي الشاب بعدما أعياه التفكير والقلق، فأنا أعرفه شابًا في مقتبل العمر، يذوب وجدانه في حب الوطن، ويتفطر قلبه حزنًا على ما أصبح عليه حاله، ولكنه في نفس الوقت يحمل الكثير من الأسئلة والشكوك المبررة حول جدوى المشاركة في أي نشاط سياسي، في ظل المناخ السائد والأوضاع الحالية. هل تصدقني عندما أقول لك أني تحمست عدة مرات للدخول على شبكة الانترنت، والمشاركة في التوقيع على بيان التغيير، ولكني أعود وأعدل عن رأيي في اللحظة الأخيرة، دائمًا ما تلح على ذهني عبارة "مفيش فايدة"، فما قيمة أن يقوم الملايين من الشعب المصري بالتوقيع والمطالبة بالتغيير، هل يمكن أن نتوقع أي نتيجة لذلك؟ وجدت في صوته نبرات الحزن، وفي عينيه الكثير من الإحباط، ولذلك فقد كنت حريصًا أن ألقي عليه المزيد من الأسئلة مرة أخرى، لعلها تساعده في الوصول للإجابة والخروج من حيرته. يا عزيزي.. إذا كان قلبك يحمل كل هذا الحزن من أجل ما وصلت إليه أوضاع البلد، وإذا كنت تتألم بصدق عندما تقارن بلادنا مع دول أخرى كانت على هامش التاريخ، ولكنها سبقتنا الآن بمراحل كثيرة، فماذا فعلت لتغير من تلك الأوضاع المتردية؟ ماذا قدمت سوى مصمصة الشفاه، والبكاء على الأطلال، وإلقاء اللوم على النظام، والمزيد من النقد لتلك الأوضاع؟ إذا كنت ترى أن توقيع المصريين على بيان التغيير لن يجدي نفعًا، فأخبرني عن وسيلتك التي ستتمكن بها من إحداث التغيير، يا صديقي العزيز.. إن مجرد اتفاق المصريين بجميع انتماءاتهم على مطالب محددة وواضحة للتغيير السياسي في مصر هو مجرد البداية فقط، وهي خطوة مهمة للضغط على النظام، الذي علمنا أنه لا يقوم بأي خطوات إيجابية للتحسين ما لم تمارس عليه أقسى أنواع الضغوط، وما التعديلات الدستورية في العام 2005 منا ببعيد. يبدو أن تساؤلات وشكوك صديقي الشاب لم تختف بعد، فقد كان صريحًا عندما أخبرني بأن أحد أهم الأسباب التي تزيد من قلقه، وتمنعه من المشاركة في التوقيع، هي الخوف من وصول اسمه إلى الجهات الأمنية، فمن المؤكد أن هناك رقابة صارمة على المواقع الإلكترونية لجمع التوقيعات، سواء الخاصة بالجمعية الوطنية للتغيير، أو الإخوان المسلمين، ومن خلال هذه الرقابة قد تنكشف أسماء من شارك في التوقيع، وبقية القصة معروفة.. فحتى لو لم يتم اعتقال المشاركين؛ فسوف يتم إضافتهم إلى القوائم السوداء للمعارضين، الذين تضيق عليهم أرزاقهم، وتغلق في وجوههم الأبواب المفتوحة. أعجبتني صراحته وتعبيره عما يدور في نفسه وتخوفاته المشروعة، وبالرغم من أن القائمين على تلك المواقع الالكترونية قد وعدوا بتحري أقصى درجات السرية في التعامل مع البيانات الواردة، إلا أني اتفقت معه في أن تلك المعلومات ليست في مأمن كامل من الاختراق، ولكني عدت مجددًا لأسأله عن قيمة انكشاف أسماء الملايين من المصريين المعارضين، هل سيتمكن أي نظام من سجن كل هذه الأعداد أو من متابعتهم؟ الإجابة هي بالقطع لا، فهناك نقطة حرجة من الأعداد في المجتمع، تخرج بعدها الأمور عن السيطرة، وهذه النقطة هي التي يبحث عنها دومًا أصحاب الحركات التغييرية، والتي تتحقق عندما يصبح التغيير مطلبًا شعبيًا وليس مجرد مطلبًا للنخب والمثقفين، إذا تحولت نوعية الموقعين على بيان التغيير من أصحاب الياقات البيضاء، ونشطاء العمل السياسي، لتشمل العامل المكافح، والمزارع البسيط، وربة المنزل المسالمة، في تلك اللحظة لن يتمكن أي مخلوق من السيطرة على تلك القوى البشرية الهائلة، صدقني يا عزيزي ستصبح تخوفاتك كلها بلا معنى عندما ننضم جميعًا إلى قائمة المطالبين بالتغيير، لن أذكرك مجددًا بأن الأرزاق بيد الله تعالى، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن الإنسان يعيش حياته مرة واحدة، فلتكن تلك الحياة كريمة من دون مذلة، فليس قدرنا نحن المصريين من دون شعوب الأرض أن نصبح مثالاً للتخلف والعشوائية، ولكني سأذكرك بأنك قد تصاب بنفس الأذى أو ما هو أشد، من دون أن توقع على مطالب التغيير، قد يكون خيارك في الدنيا أن تحيا في سلام بجوار الحائط، وأن تربي أولادك، وبالرغم من ذلك.. هل تضمن أنك لن تكون ضحية لأمين شرطة يعرف كيف يستغل قانون الطوارئ اللعين؟ أو أنك لن تصبح من ضحايا الإهمال الطبي في المستشفيات؟ أو أنك لن تتعرض للسرقة والإيذاء من مجرم يعرف كيف يتهرب من تنفيذ الأحكام؟ هل تضمن أنك ستجد غدًا لك ولأولادك رغيف الخبز، أو أنبوبة الغاز، أو حتى قطرة الماء؟ يا صديقي العزيز.. أنت في كل الأحوال ضحية للنظام. وجدت في صوت صديقي نبرة جديدة من التفاؤل، بالرغم من أن سؤاله التالي كان يمثل نسخة مكررة من سؤال الغالبية العظمى من المصريين: وماذا يفعل صوتي أنا فقط؟ وماذا يمكن أن يغير أمام هذا الطوفان الهائل من الفساد والسلبية التي نخرت كالسوس في عظام المجتمع ككل؟ كانت إجابتي له مباشرة وواضحة: يا عزيزي.. أنت مطالب بأن تفعل الصواب وما يمليه عليه ضميرك كفرد، بغض النظر عن أخطاء الآخرين، أنت وحدك من سيحاسب كفرد، لست أقل من مئات المتطوعين والناشطين الذين جاؤوا من أرجاء العالم في سفن أسطول الحرية لفك الحصار عن غزة، وسقط منهم الشهداء في سبيل قضية هم على إيمان وقناعة بها، بالرغم من علمهم بأن ذلك الأسطول لن يتمكن من فك الحصار، إلا أن إيمانهم بعدالة قضيتهم دفعهم للإقدام على المخاطرة، لست أقل من "كاسياس" حارس مرمى الفريق الأسباني الفائز بكأس العالم لكرة القدم الذي أعلن عن عزمه المشاركة في رفع الحصار، ألا يستحق الوطن منا شيئًا من التضحية، ألا تعتقد أنه مهما كان الدور الذي ستقدمه بسيطًا، إلا أنه يستحق أن تواصل نضالك من أجله، حتى لو شعرت بأنك تقف وحيدًا في المعركة، توقيعك على بيان التغيير هو أبسط الأساليب في المشاركة والتفاعل مع قضايا الوطن، ولكنه خطوة مهمة تنقلك من مقاعد المتفرجين إلى حلبة المشارك الذي يتابع نتيجة توقيعه، ويصبح مستعدًا لقدر أكبر من المشاركة. لم أنتبه في ذروة حماس الحديث مع صديقي إلى تلك الدموع التي بدأت تنساب من عينيه، وجدته يقترب مني ويقبض على يدي بقوة، وهو يردد بلهجة حاسمة: نعم سوف أشارك من الآن في بناء وطني، لن أتردد ثانية في التوقيع على مطالب التغيير، لقد استوعبت الدرس، وربما يأتي اليوم الذي أفتخر فيه أمام أبنائي بأني كنت أحد الموقعين الذين ساهموا في إحداث التغيير بهذا الوطن. [email protected]