في حديثه إلى ياسر رزق بدا الفريق عبد الفتاح السيسي يتناول شؤون الدولة المصرية بوصفه راعيا للدولة وشؤونها واستراتيجاتها والعين المراقبة لشؤونها والراصدة لتطوراتها والتي تضع الخطط والبدائل للمستقبل ومن ثم تحدد في ضوء ذلك متى تتدخل ومتى تعدل المسار السياسي ، وكان وزير الدفاع يتحدث عن مراقبته لسلوك الرئيس المعزول محمد مرسي وأدائه السياسي وعقيدته الفكرية ورؤيته لفكرة الدولة والجماعة وأنه كان يدرك منذ اللحظة الأولى أنه سيفشل ، ولكنه "طول باله" عليه وأنه عندما التقى المفكرين والفنانين في دهشور وطالبهم بالصبر وأن البقاء أمام صندوق الانتخابات خمس ساعات أفضل من تدخل القوات المسلحة الذي سيعيد مصر إلى الوراء أربعين سنة كان يقصد ما يشبه "التمويه" ولا يعني أن الجيش لن يتدخل ، لم يكن رافضا تدخل الجيش في صراعات الأحزاب والقوى السياسية وتنافسهم على السلطة ، ولكنه كان لا يريد أن تبدو صورة تدخل الجيش المنتظرة كانقلاب عسكري ، يريد أن يكون تدخله في صورة استجابة لمطلب شعبي ، وما زالت هذه النقطة تحديدا تقلق الفريق جدا وتمثل كابوسا له ، والحقيقة رغم التحفظ الشديد في كلام الفريق السيسي ، وما أضفاه ياسر على الحوار بالمزيد من التأنق والديبلوماسية ، رغم كل ذلك فإن ما يخرج به القارئ للحوار أن عملية الإطاحة بمحمد مرسي كانت مسألة وقت ، وأن الترتيبات لذلك كانت تتم منذ فترة أبعد مما كنا نتصور ، وبغض النظر عن الالتحام الذي تم بين شباب تمرد وبين أجهزة سيادية بعد ذلك للتنسيق لعملية "إخراج" مشهد الإطاحة بمرسي بعيدا عن شكل "الانقلاب" ، بعيدا عن ذلك ، فإن الواضح أن الرؤية والترتيب والاستعداد كان أسبق من ذلك بكثير ، وربما جاء حراك تمرد كفرصة رائعة للأجهزة المعنية لكي تقصر المسافة وتعجل بالتنفيذ . لست هنا في معرض تحليل ما مضي ، فقد حدث وانتهى ، ونحن أمام واقع جديد ، ولكن الأهم الذي استوقفني في حديث السيسي هي تلك الروح الأبوية التي تتعامل بها المؤسسة العسكرية وأذرعها المخابرات الحربية والعامة مع الدولة المصرية ، والتصرف باعتبار أن الدولة ينبغي أن تعمل تحت وصاية ورعاية وتوجيه وضبط تلك المؤسسة ، فهي في النهاية "المؤسسة الحاكمة" ثم نستكمل هياكل الدولة وأجهزتها ومؤسساتها الأخرى بعد ذلك ، تلك الروح وتلك المعادلة هي في الحقيقة التي حكمت الدولة المصرية منذ يوليو 1952 وحتى يناير 2011 ، وأنا أدرك أن تغيير تلك المعادلة وإعادة تصحيح مسار الدولة وفكرة الدولة ذاتها ليس بالأمر الهين ، ولكن إذا كنا ندرك أن مصر عاشت ثورة حقيقية في يناير 2011 ، وإذا كان الفريق السيسي يعتبر أن ما جرى في 30 يونيو 2013 هو ثورة أخرى ، فلا منطق لكي نعيد إنتاج دولة ما قبل الثورة ، لأن المفترض أن الثورة تصحح أوضاعا خاطئة وتعيد بناء الدولة على أسس صحيحة ، ولا يعقل أن يقوم المصريون بثورتين في ثلاث سنوات من أجل إعادة إنتاج الدولة العسكرية ، أيا كانت الصيغة الديكورية التي ستخرج بها في النهاية . لا يمكن إنكار قدسية المؤسسة العسكرية في ضمير الشعب المصري ، وهي قدسية قائمة من جهادها خلال العقود الماضية في معارك مريرة وتاريخية مع العدو الصهيوني وتضحيات كبيرة ، كما لا يمكن استبعاد المؤسسة العسكرية بالكلية من المعادلة السياسية ، فهذا يصعب تحقيقه في فترة التحول الحالية ، ولكن بالمقابل لا يمكن القبول بأن تكون المؤسسة هي الحاكمة وهي الموجهة لشؤون الدولة المصرية ، من أول الثقافة والإعلام والفن وحتى السياسة الخارجية ، مرورا بالتعليم والاقتصاد والأمن الداخلي والتخطيط ، وتكون السلطة "المدنية" مجرد أداة أو واجهة أو سكرتارية تنفذ خطط وتوجيهات "المؤسسة الحاكمة" ، هذا مدمر لمستقبل مصر ، كما هو مربك لها ومن المستحيل إعادة إنتاجه في ظل أجيال جديدة تجاوز طموحها السياسي وإصرارها على انتزاع حياة أفضل لوطنها أي وسائل للقمع أو الترهيب أو الترغيب ، حتى لو تصورت "المؤسسة" أنها نجحت في السيطرة على أعداد متزايدة من إعلاميين وفنانين ومثقفين وصحفيين وسياسيين ورجال أعمال ، مصر أصبحت أكبر من ذلك بكثير ، وللمرة الألف أكرر : كل الذين حسبوها خطأ وتجاهلوا حقائق هذا التغيير خسروا وسقطوا بأسرع مما كانوا يتصورون .