هذا مقال مؤلم جدا ، وهو آخر ما نشر بمجلة الرسالة للأديب الكبير أحمد حسن الزيات رحمه الله كتبه بتاريخ 23 فبراير سنة 1953م ( أي بعد 23 يوليه 1952م بخمسة أشهر ) كتبه لينعي فيه هذه المجلة التي كان ينتظرها أبناء العربية بلهف وشوق والتي تعد من أعرق المجلات الأدبية في الشرق ، وقبلها بشهر نُعيت أيضا مجلة الثقافة وتلاهما معظم المجلات الأدبية التي ملأت حياة الأمة بالثقافة الأصيلة . * * * الرِّسالة تحتجب ! للأديب الكبير أحمد حسن الزيات في الوقت الذي كانت ( الرسالة ) تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها ، وأولياء الثقافة والصحافة في وادي النيل ، وزعماء الأدب والعلم في أقطار الشرق ، بانقضاء عشرين سنة من عمرها المبارك المثمر ؛ وفي الوقت الذي أشرق فيه على مصر صباح الخير بثورة الجيش المظفر ، بعد ليل طال في الظلام ، وعرض في الضلال ، وعمق في الهول ؛ فاسفرَّ وجه العيش ، وافترَّ ثغر الأمل ، وشعر كل مصري في ظلال العهد الجديد أن وجوده إلى سمو ، وعمله إلى نمو ، وأمره إلى استقرار ؛ نعم في هذا الوقت الذي نشأ فيه لتوجيه الإرشاد وزارة ، ولتنمية الإنتاج مجلس ، ولتعميم الإصلاح خطة ، تسقط ( الرسالة ) في ميدان الجهاد الثقافي صريعة بعد أن انكسر في يدها آخر سلاح ، ونفد من مزودها آخر كسرة ؛ فكأنها جندي قاتل اليهود في فلسطين على عهد فاروق ، أو فدائي جاهد الإنجليز بالقناة في حكومة فاروق ! ولكن فاروقا دال ملكه وزَال حكمه ، فبأي سبب من أسباب الفساد يؤتى المجاهد من جهة أمنه لا من جهة خوفه ، ويقتل بيد شيعته لا بيد عدوه ؟ تموت الرسالة اليوم في ضجة من أناشيد النصر في مصر ، وأهازيج الحرية في السودان ، فلا يفطن إلى نزعها هاتف ، ولا يصغى إلى أنينها مُنشد ! ومن قبل ذلك بشهر ماتت أختها ( الثقافة ) وكان الناس يومئذ في لهو قاصف من مهرجان التحرير ، فلم تبكها عين قارئ ، ولم يرثها قلم كاتب ! كأن عشرين سنة للرسالة ، وست عشرة سنة للثقافة قضتاها في خدمة الأدب والعلم والفن والإسلام والعروبة لم تهيئ لهما مكانا في الوجود ، ولم تنشئ لهما أثرا في الخواطر ! وكأن هاتين المجلتين اللتين أنشأتا في أدب العصر مدرستين نشَّئ فيهما جيل ، وابتدأت بهما نهضة ، واجتمعت عليهما وحدة ، لم تكونا إلا ورقا مما ينشر في الطريق للإعلان ، يجيء به الموزع وتذهب به الريح ! وما أحب أن أُحَمِّل تَبعه ما أصاب الرسالة والثقافة على زهادة الناشئين في الأدب الجد ، ولا على فشل المعلمين في تعليم القراءة ؛ فإنا اخترنا هذا النوع من الصحافة ونحن نعلم ما يعترضه من عوائق ، وما يكتنفه من مكاره ، أقلها هذه الأمية المدرسية التي تقنع من الثقافة ( بفك الخط ) وقشور العلم ، فلا تهيئ المصاب بها إلا للقراءة السهلة الضحلة ، ليرى نكتة تملأ فمه بالضحك ، أو صورة تدغدغ جسده بالشهوة ! اخترنا هذا النوع من الصحافة المجاهدة المستشهدة ، ووقفنا بالرسالة على الأعراف بين آخر النقص وأول الكمال ، تأخذ بيد الأدنى ليصعد ، وتثبت قدم الأعلى ليستمسك ؛ ثم تدفع المرتفع صعدا في السماء ليكون باستعداده أقرب إلى الحق المطلق والخير المحض والجمال الكامل . ويحسبنا أن يصحبنا في هذا الطريق من تهيئهم فطرهم السليمة لبلوغ الغاية منه ، وهم بحكم النُدرة في الكمال والكرم قلة . ومن السهل القريب أن تصلح القلة لتصلح الكثرة ، وأن ترفع الخاصة لترفع العامة . وليس وراء القلة حال ينبغي ولا جاه يرتجي ، وإنما سبيل المال والجاه لمن أرادهما ، العامة يستميلها بالتهريج ، والسياسة يستغلها بالدجل ، والحكومة يستدرها بالملق . والعدة إلى ذلك يسيرة المنال : حنجرة صلبة تخطب ، وبراعة مداهنة تكتب ، ونية فاسدة تملى ! ولو أرادت ( الرسالة ) زهرة الحياة الدنيا لعرضت ضميرها للبيع وقلمها للإيجار . ويومئذ تتحول أكداس الورق في مطبعتها العجيبة من أوراق طبع إلى أوراق نقد ! ولكن الله الذي يحبب في سبيله إلى المجاهد الاستشهاد وليس في مزودة إلا حفنة من سويق أو قبضة من تمر ، حبب إلى ( الرسالة ) الجهاد في الميدان المجُدب المُوحش ولا عدة لها إلا الصدق والصبر والزهد ، لتظفر بنصر المجاهد إذا فاز ، أو بأجر الشهيد إذا قُتل ! . إنما التبعة في خذلان " الرسالة " و " الثقافة " على الحكومة بوجه أعم ، وعلى وزارة المعارف بوجه أخص . كانت الحكومة الحزبية لا رحمها الله تخاف ولا تختشي . كانت تبذل العون في صوره المختلفة للمجلات التي تعارض لتسكت ، وللمجلات التي تؤيد لتقول . أما الصحف التي لا نملك لها نفعا ولا ضرا في سبيل الحكم والغنم ، فكانت لا تلتفت إليها إلا كما تلتفت إلى الشعب المسكين : تأمره ليطبع ، أو تسخره ليعمل . وما كانت طاعته أو عمله في رأيها إلا واجبا مفروضا لا شكر عليه ولا أجر له ! . ومن عدلها الذي أخجل عدل عمر أنها أرسلت إلى الرسالة مأمور الضرائب الذي ترسله إلى الجرائد العظمى ، والمجلات السياسية الكبرى ؛ فلما رأى إيرادها ثلاثة أرقام وربحها رقما أو صفرا ، أخذه الدهش ، وملكه العجب ، وقال بلهجة المستنكر : كيف يكون إيراد المصور وأخبار اليوم وروز اليوسف كذا متعددة ، ويكون إيراد الرسالة كذا واحدة ؟ ! لابد أن يكون السجل ناقصا والدفاتر مزورة ! ورفض المأمور الذكي الدقيق الوثائق وعمد إلى التقدير الجزاف ، فصال وجال ، وتخيل ثم خال ، وفرض فيما فرض أن في كل عدد من أعداد المجلة خمسين إعلانا على التقدير الأقل ، أجرتها في الأسبوع كذا ، وفي السنة كذا ؛ فلما نبهته عيناه اللتان في رأسه إلى أن كل عدد لا يزيد ما فيه على إعلانين في الواقع ، أمرهما ألا تدخلا فيما لا يعنيهما ! ومضى بسلامة الله يكره القواعد الأربع على أن ( نعمل له حسابا ) كما فكر وقدر ، حتى بلغت جملة ما على الرسالة لمصلحة الضرائب : ( 24855 ) جنيها في سبع سنوات ! فكم كان الربح إذن ! وهالت أرقام هذا التقدير ( لجنة التقدير ) فخفضتها إلى ( 12607 ) بالتقدير الجزاف أيضا . ثم حَجَزَت على المطبعة والدار ، وأَمَرَتنا بتنفيذ هذا القرار ! ولما لجأنا إلى القضاء عَوَّقه محاموها سنتين عن الفصل ، ومازالوا يعوقونه بالتأجيل العابث ، والمصلحة لا تكترث ولا نهتم مادامت تطالب وتهدد ، والممول يُسارع ويُسدد ! . ثم كانت الحكومة تبعث إلى الرسالة ببعض الفتات من إعلانات الوزارات في حدود الفائض من الصحف المؤيدة . فلما نقصت الموارد وضاقت الميزانية قصوا الأطراف الزوائد من ( المصروفات ) فكان منها على زعمهم نصيب المجلات الأدبية ! أما التبعة التي على وزارة المعارف خاصة فهي أثقل من أن يحملها ضمير مسئول . كانت هذه الوزارة ولا تزال تعين المدارس الحرة ، وتمون المكتبات العامة ، وتعول بالفرق التمثيلية ، وتدير الجامعة الشعبية ، وتعنى بألوان الثقافة على الجملة . ولكنها – واعجبا – لم تدرك إلى اليوم أن المجلة الأدبية الجدية مدرسة متنقلة ، تدخل كل مكان في أي بيئة ، وتعلم كل إنسان في أي سن ، وتفعل ما لا تستطيع أن تفعله الوزارة نفسها من إحياء اللغة ، وإنهاض الأدب ، وتبسيط العلم ، وتعميم الثقافة ، وتوجيه الرأي ، وتأليف القلوب ، وتوحيد العرب . والسفارة بين مصر وأقطار العروبة ، والتمكين لزعامتها الفكرية في بلاد الشرق . فلو أنها أدركت ذلك لأعانت المجلات الأدبية على أداء رسالتها ببعض ما تعين به معاهد التعليم ومسارح التمثيل ومراكز الثقافة ؛ ولكنها – واأسفا – لم تدرك منذ العام الماضي إلا أن اشتراكها في خمسمائة نسخة لمدارسها ومكتباتها من الرسالة والثقافة ، هو الذي أثقل كفة المصروفات في ميزانية التعليم فألغته لتعتدل الكفتان ! وبهذه القشة المباركة قصمت ظهر البعير ! * * * كانت الرسالة منذ فحش غلاء الورق ، وفدحت نفقات الطبع ، تكفي نفسها أو تخسر قليلا . وكنا نواجه هذه الحال بالتعفف والتقشف والصبر فتنساغ مرارتها أو تخف . فلما شاءت الضرائب ألا تعقل ، وأرادت الحكومة ألا تُعْلن ، وقررت المعارف ألا تشترك ، أخذت الخسارة تنمو وتطرد حتى بلغت في العام المنصرم ألفا ومائة وعشرين جنيها . فرأينا في مطلع هذا العام أن نقوى الرسالة لتصمد ، وأن نُعيد ( الرواية ) لتساعد ، فإذا بالخسارة تتسع ، وبالطاقة تضيق ، وبالأزمة تشتد ، وبالأمل يضعف ؛ فلم نجد بدا من الإذعان لمشيئة القدر ! . لقد قلنا يوم بلغت الرسالة عددها الألف أو عامها العشرين : إنا نطمع في فضل الله أن تزيد الرسالة قوة في عهد مصر الجديد . وما نسأل الرسالة العون إلا من الله ، فقد عودها جل شأنه ألا تفزع إلا إليه فيما يحزب من أمر وفيما ينوب من مكروه . ولعل السِّر في بقائها إلى اليوم على ضعف وسيلتها وقلة حيلتها ، أنها عفت عن المال الحرام فلا تجد لها اسما في ( المصروفات السرية ) ، ولا فعلا في المهاترات الحزبية ، ولا حرفا من الإعلانات اليهودية . وإذا لم يكن للفضيلة رواج في عهد غرق فيه ( القصر ) في الفحش والمنكر والبغي والاغتصاب والاستبداد والقتل ، وارتطمت فيه ( الحكومة ) في الاختلاس والغش والخيانة والرشوة والمحاباة والختل ، فإنا لنرجو أن يكون لها من السيادة والعوز نصيب ، في عهد يتولى الأمر فيه بإذن الله محمد نجيب . ولكن القضاء غالب . والرجاء في الله أولى . ولكل أجل كتاب . ولكل سافرة حجاب . ولكل بداية نهاية ! أحمد حسن الزيات