صدر مؤخرا للشاعر المصري شريف الشافعي (41 عامًا) ديوان جديد بعنوان "كأنه قمري يحاصرني"، عن دار الغاوون في بيروت، وهو السادس في مسيرته الشعرية في ديوانه، الذي يتضمن ثلاثين مقطعًا مختزلاً، ينقل الشاعر عن ذاته نبضها المباشر هذه المرة، بعد تجربته الشعرية السابقة "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، متعددة الأجزاء، التي اتخذ فيها "الروبوت" وسيطًا فنيًّا
أهدى الشافعي كتابه إلى: "سلوى عمار.. حيثُ تُدَّخَرُ الرؤية"، بما يوحي بادئ ذي بدء بتعثر الإبصار على النحو النمطي، إذ تحل محله بصيرة أعمق، تسعى إلى ترصّد العالم من خلال استبطان عناصره الخفية. يقول المقطع المثبت على ظهر الغلاف: "النورُ: عالمٌ يسكننا/ والعالمُ الذي نسكنه: الظلامُ"
أما لوحة الغلاف، فهي للتشكيلية سوسانا بوبيدا سولورسانو (فنانة من كوستا ريكا)، وتتجلى فيها امرأة معصوبة العينين بشريطة سوداء. فيما تنطلق من المرأة، وتحوم حولها، عيون وأفئدة وشموع ومفاتيح، كآليات بديلة لإزالة الحصار القائم، ومحاولة إيجاد مخرج من العتمة. يقول الشاعر، مجردًا "قصيدة النثر" من حليها وزخرفها الإيقاعي واللفظي: "الحقيقةُ سجَّادةُ صلاةٍ/ تمتصُّ أنسجتُها الظَّمْأَى دموعَنا/ لكنْ لا يزولُ عطشُها تمامًا/ لأنها متشوِّقةٌ/ إلى ما لا تستطيعُ عيوننا أن تسكبه"
وكأن العالم كله، في تجربة "كأنه قمري يحاصرني"، في مرحلة خلخلة انتقالية، يسير على غير هدىً، فلا يقين، ولا مطلق، ولا مصداقية لأحد، ولا لشيء. بل هناك إنسان، وشعوب بأكملها، بحكامها ومحكوميها، في مفترق طرق، يبدد خطواتها الضباب، وينتابها اغتراب أبدي. يقول: "الغريبُ/ الذي يعبرُ الطريقَ/ ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاء/ ولا كلبٍ مدرَّبٍ/ هو بحاجةٍ/ إلى أن تصيرَ للطريقِ عيونٌ/ تتسعُ لغرباء
من جهته، يقيم القمر حصارًا استثنائيًّا خاصًّا، كما لو أنه يحاصر الأرض بسواده في حالة كسوف الشمس الكلي من جهة، وكما لو أنه يحاصر الأرض ببياضه وهو بدر تمام من جهة أخرى، وهنا: يستوي البياض والسواد، فالأبيض الباهر والأسود المطلق كلاهما يحتلان الرؤية، ويحتكران حقيقة غائبة عن العيون: " كمْ أنتَ قاسٍ وَأَسْوَدُ/ أيها الأبْيَضُ". فالإبصار الحقيقي مرهون دائمًا في النص بتجاوز كل ما يحول دون صفاء الرؤية وعمقها، حتى وإن كان ذلك الحائل قمرًا يخال لأصحاب الرؤى الأحادية والسطحية أنه منير كاشف
يُذكر أن شريف الشافعي من مواليد 1972، صدرت له في الشعر دواوين: "بينهما يصدأ الوقت"، "وحده يستمع إلى كونشرتو الكيمياء"، "الألوان ترتعد بشراهة"، "الأعمال الكاملة لإنسان آلي" - كتابان
من أجواء ديوان "كأنه قمري يحاصرني"، نقرأ
"سأمشي على قدمٍ واحدةٍ وأؤجِّلُ الأخرى للرُّجوعِ
يالَبُؤْسِي حتى الحذاء أخْطَأَتْهُ قدمي
** ** **
حائرٌ أنا فيما لا حيرة فيه
لَمْسَةُ كَفِّكِ أبْرَعُ تفسيرٍ لكفِّي
** ** **
التحياتُ للعناصرِ المشعَّةِ بذاتِها لا لفوانيسَ راضعةٍ من كهرباء
** ** **
العبيرُ حيثُ تَعْبُرينَ
والنَّدَى فطيرةٌ جيِّدةٌ ليس لها سوى أن تُؤكَلَ جيِّدًا
أما الكذبُ، فلمْ يقلْ شيئًا ورغم ذلكَ، هو الصَّادقُ الوحيدُ هذا الصباح
** ** **
ليسَ بالنَّفيرِ وحده تُقادُ الحافلةُ
جنَّ جنوني إذْ رأيتُهمْ يتقاتلونَ بجنونٍ على المقعدِ الأماميِّ الخالي
لا أحد منهم يدركُ أن النومَ مركبةٌ لم تعد صالحةً للسَّيْرِ على طريقِ الحُلْمِ
** ** **
حاولي أن تُبصري بشفتيْكِ حاولي مرةً واحدةً من أجلي
أنتِ لا تتصوَّرينَ كم قاسَيْتُ كي أذيبَ صُورَتي في كأسِكِ
** ** **
هم مجانينُ فعلاً أولئك الذين يُطالبونَ المجانينَ بالتوقُّفِ عن جنونهمْ
لو أن رُمَّاناتِكِ ملغومةٌ لانفجرتْ عندما ارتميتُ عليكِ كطفلٍ ولطار رأسي في الهواء وهو يضحكُ
لا يشتهي الرِّيشُ المتناثرُ أنْ ينعمَ بالطمأنينةِ في وسادةٍ ناعمةٍ ولا أن يعودَ مَرَّةً أخرى إلى الطيور المحبوسةِ في قفصِ السَّماء
لا يعرفُ القنَّاصةُ أين أنتِ والمفتِّشونَ إذا فَتَّشوني، سأبكي
** ** **
الغريبُ الذي يعبرُ الطريقَ ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاء ولا كلبٍ مدرَّبٍ
هو بحاجةٍ إلى أن تصيرَ للطريقِ عيونٌ تتسعُ لغرباء
** ** **
النورُ: عالمٌ يسكننا والعالمُ الذي نسكنه: الظلامُ
** ** **
غارةٌ تلو أخرى طيّاراتٌ بلا طيّارينَ موتٌ لا يخصُّ أحدًا بِعَيْنِهِ
خنادقُ كاملةُ العددِ أغلقتْ عيونَها
كلُّ ما حولنا قابلٌ للإزاحةِ بمزيدٍ من الحظِّ إلا كشَّافات الإضاءةِ القويَّة