ونقصد بذلك أن طريقة التفكير التى تفصح عنها غالبا طريقة التعبير فى الكتابة خضعت فى بعض الأحيان لمنطق لغة غير عربية ، على الرغم من أن لغة الكتابة هى العربية ، حيث أن لكل لغة " منطق " معين يحكم طريقة التفكير فى عناصرها وأساليبها وغاياتها ،ومن هنا فخبراء الترجمة يؤكدون أنه لا يكفى – مثلا فى مجال الإنجليزية – لأن يكون المترجم العربى متقنا للغة الإنجليزية ، بل لابد فى الوقت نفسه أن يكون متقنا للغة العربية ، بحيث لا يقف فقط عند حد التحدث بها كما يتحدث عموم الناس الناطقين بها . ومن المهم أن أعترف أن الذى أوحى لى بعنوان مقالنا اليوم ، مقال قديم لعبقرى الوطنية الشعبية المصرية ، عبد الله النديم ، حمل عنوان ( عربى تفرنج ) ،نشره بمجلته المعروفة فى ذلك الوقت ( الأستاذ ) ،حيث عبر عن نفس الوجيعة التى نعبر عنها اليوم ، وهو الأمر المؤسف حقا أن يصلح كلام عن أمر بعينه كان فى أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر ، لإمكان تكرار مضمونه ، ونحن نودع العقد الأول من القرن الحادى والعشرين !! ولعل بعض الأمثلة تبين لنا ذلك : - فمن خصائص لغة مثل الإنجليزية أنك إذ تكتب عادّا جملة أشياء أو أمور ، لا تكتب ما يعبر عن حرف العطف (و) ، وهو and إلا فى آخر المعدود ، لكن اللغة العربية تسير وفق منطق مغاير حيث تقرن حرف العطف بكل فرد من أفراد المعدود ، ومصداق هذا ما نجده فى قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ....(23) ) ، سورة النساء ووفقا للنهج نفسه قال سبحانه وتعالى فى سورة التوبة : (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)) . ومن المؤسف حقا أن نقرأ لبعض الباحثين عبارات يعدون فيها أمورا ، فإذا بهم لا يذكرون حرف العطف ( و ) إلا فى نهاية أفراد المعدود ،وهذا معنى قولنا أنهم بالتالى يفكرون باللغة الإنجليزية وهم يكتبون بالعربية ! - ومن المعروف كذلك أن بداية الكلام فى اللغة الإنجليزية تكون بجملة اسمية ، حيث يجئ الاسم أولا ، وليس الفعل ، وذلك على غير ما هو الأمر فى اللغة العربية إذ تكون البداية بجملة فعلية ، لكن عددا من الباحثين الجدد بصفة خاصة ، صار معتادا لديهم أن يبدءوا بجملة اسمية ، ولعل ظهور هذا لدى الباحثين الجدد بصفة خاصة يعد دلالة على هذا الزحف المؤسف لمنطق اللغة الأجنبية للتسيد على منطق التعبير باللغة العربية ،وهكذا وجدت فى أحد البحوث تحليلات إحصائية ضخمة ، عند كل رقم أو نسبة نجد الباحثين يقولون – مثلا – " نسبة الذكور إلى الإناث فى التعليم الإعدادى تتمثل فى 0.54% " ، والأسلم أن يقول " " تتمثل نسبة الذكور إلى الإناث فى كذا " ،أو " نصيب الريف من مدارس التعليم الفنى أصبح كذا " ، فلم لا يقول " أصبح نصيب الريف من التعليم الفنى كذا ؟... وعلى هذا قس عشرات ، وربما مئات الجمل والتعبيرات !! - وقد لا تعرف اللغة الإنجليزية بداية الفقرة بكلمة مثل " ولقد " أو " الواو " بصفة خاصة فى بدايات بعض الجمل والفقرات، أو " إن " ، على غير ما هو الأمر فى اللغة العربية ، فإذا بباحثين وكتاب يكتبون العربية بالمنطق اللغوى الإنجليزى بصيغة يغلب عليها التقرير ، وهو ما كان يغلب على فقرات وثيقة شهيرة زمن ثورة يوليو 1952 ، فيما كان يعرف بالميثاق ، دون أن نقصد أن كاتبه الحقيقى " محمد حسنين هيكل " كان يُغَلّب بذلك منطق اللغة الإنجليزية ، ذلك أن المقصد فى ذلك الوقت كان تغليبا لأسلوب صياغة الحِكَم والأمثال ، بهدف إضفاء قوة وإصرارا ، وكأن ما تعبر عنه الفقرة هو قانون أو مبدأ لا ينبغى النقاش حوله 0 ومن الغريب حقا أن باحثا لم يتأثر بهذا الذى نشير إليه ، لكن مشرفه المتأثر اعتبر تعبير الباحث مخطئا ، وعلى سبيل المثال ، فعندما يبدأ الباحث فقرته بقوله " وقد توصلت هذه الدراسة إلى عدة نتائج 00" يقوم المشرف بشطب كلمة "ولقد " 0 وعندما يكتب الباحث فى أول هذه النتائج " أنه فى الوقت الذى 000" يشطب المشرف كلمة " أنه " ، وفيما يبدو أنه يعتبرها " زوائد كلامية " ، بينما هى مما يتصف به التعبير باللغة العربية . - الأدهى والأمر من هذا أن باحثين كبارا ، من الأجيال المتأخرة ، نظرا لبعدهم عن متابعة الكتابات الأدبية والفكرية الرصينة لكتاب مثل طه حسين ، وهيكل ، والعقاد ، وزكى نجيب محمود ، وأحمد أمين ، والمنفلوطى ، وغيرهم ، لم يعودوا يألفون عددا غير قليل من الكلمات العربية الفصيحة التى بدأ هجرها ، على الرغم من وضوح معانيها ، فيتصورون أنها كلمات غير علمية ، وهذا ما وضح لى من شكوى جاءنى بها باحث دكتوراه قرأ له أحد الأساتذة ، وعلّم على عدد من مثل هذه الكلمات مؤنبا الباحث باعتباره يستخدم كلمات غير علمية ، وسألنى الباحث : ماذا يفعل ؟ وقد حرت حقا لأن الباحث الصغير هو المصيب بينما الأستاذ المشرف غير مصيب ، لكن التقاليد المؤسفة عندنا أن من غير المعقول أن يخطئ الأستاذ – وكأنه معصوم – كما أنه من غير الطبيعى أن يصيب الباحث أمام الأستاذ !! من هذه الكلمات على سبيل المثال : " الحادثات وكسب البشر " ، فهذا مصطلح معروف فى الدراسات الفلسفية الإسلامية بصفة خاصة ، والباحث يبحث فى فلسفة التربية ، فإذا بالمشرف يضع علامة استفهام دلالة على أن العبارة غير مفهومة ، ولا غرابة فى ذلك ، فهو فيما يبدو لم يصادفها فى قراءاته . ومنها " إنتاج بشرى مؤطر بمعرفة الوحى " حيث وضع المشرف أيضا علامة استفهام على هذه الكلمة " مؤطر " ! وكذلك كلمة " دشنها " ، و " القدح فى " ، و " سبر غور النص " و " المفاهيم المفتاحية " ، و " المحرجات والمحظورات " ، و " عفا أثره واندرس " ، و " اكتناه الحقائق " ، و " تماهيا معه " ، و " كبل سعيهم بوطأة الحال " ، " وكان جامحا " ، و " تشرزم " ، و " كتب الملل والنحل " ، و " مطلقاتها " ، و " تغياها الشارع " ، و " قمين " ، و " نوابت السوء " ، و "حاجة دعوية " ، و " وسائل البلاغ المبين " ... إلى غير هذا وذاك من كلمات ، لو فتح المشرف قاموسا للغة العربية لعرف معناها وتيقن أنها ليست كما يقول ألفاظا غير علمية ، وقد كان يمكن قبول كلامه لو وصف هذه الكلمات " بالغموض " ، أما أن يصفها باللاعلمية ، فهذا ما لايصح . وليس الأمر هنا مجرد حالة فردية ، بل هناك ما يماثل هذه الحالة بأعداد تتكاثر كلما انضمت أفواج جديدة إلى زمرة الأساتذة !! وفى دراسة جاءت لى لتحكيمها ، وبالتالى لا أعرف صاحبها ،عن " التربية الوطنية " ، جاء فى إحدى فقراتها : " مرحلة الشباب فترة هامة لغرس القيم الكريمة والمعانى الوطنية ، فالشباب عماد الأمم0 الناشئة هم قادة التنمية الوطنية ،ولا مناص من تبصير المواطن بحقوقه وواجباته والتشريعات السارية فى البلد كى تنتظم الحياة وتزدهر 0 تذهب فئة من المعنيين بقضايا التربية إلى أن فترة المراهقة هى أفضل وقت على الإطلاق لتعلم العرقة بين الحقوق والواجبات ..." ،وهكذا باقى الكلام الذى بدأ البداية المشار إليها من غير أن يستهل بمثل " إن " ، فإذا ما نتهت الجملة الأولى إذا به ينتقل إلى الثانية من غير ما يشعر القارئ بتواصل الكلام كأن يقول " ومن ثم ف " ، أو " ذلك لأن ..." وهكذا يجئ الكلام جملا كل منها مستقلة عن سابقتها ولاحقتها إلا فيما ندر! ولعل هذا يؤكد ما سبق أن بدأنا به من أن " التعريب " لا يعنى الكتابة بلغة عربية فقط ،وإنما كذلك بمنطق عربى وبثقافة عربية ، وبروح عربية ! ومما يحزن حقا أن نضع من نظم التعليم ما يعزز البعد عن منطق اللغة العربية ، فها قد أصبح محتما على كل باحث للدكتوراه والماجستير أن يكون حاصلا بدرجة عالية على الشهادة المعروفة ب " التيفل " ،ومن المؤكد أن إتقان الباحث للغة الإنجليزية أمر أصبح حتميا ، لكن ، ألا يصح أن نساوى فى الإتقان أيضا والإجادة معرفة اللغة التى يكتب بها ويتحدث ألا وهى العربية ؟ نؤكد على هذا خاصة وأن المناخ السائد على أجهزة الإعلام وخاصة المرئى منها قد أصبحت مخاصمة إلى حد كبير لأبسط قواعد وأصول اللغة العربية ، بل ولربما لم أستطع أنا نفسى ، كاتب المقال الحالى ،أن أهرب من طوفان التردى والهبوط ، فتجد فى مقالى بعض الأخطاء ؟!!