بعد أن كثرت الأحاديث عن حملات الإعلام المصري المستمرة لتضليل وعي الجماهير وتزييف الحقائق , بعد أن وصف العديد من خبراء الإعلام وكتاب الرأي في العالم العربي إعلامنا بأنه يعاني من حالة سعار محمومة اشتد وطيسها منذ نجاح الرئيس محمد مرسي في الانتخابات المصرية , وقد وصل حجم التضليل والتزييف فيه إلى معايير غير مسبوقة من قبل , حتى أن جريدة ( ميدل إيست مونيتور ) البريطانية كتبت بتاريخ 30/ 8/ 2013 مانشيتا كبيرا تتسائل فيه :( إلى أي هاوية يسقط الإعلام المصري ?) وأسفل منها كتبت عنوانا آخر : ( إنهم يتحدثون عن أن أوباما عضو في تنظيم الإخوان !! ) وارفقت صورة من مانشيت جريدة الوفد المصرية التي ذكرت فيها تلك الكذبة السخيفة والمقززة والتي جعلت من إعلامنا المصري أضحوكة العالم كله , فإني أردت اليوم ان أرد بعض الإعتبار لذلك الإعلام الذي تفتحت عيوننا عليه وتربينا على ما يقدمه لنا من دراما وما ينتجه من برامج وأفلام ومسلسلات , فمن ترك مصر وسافر لأحد بلداننا العربية يعرف جيدا تلك الصورة النمطية التي تصل لعقول إخواننا العرب من خلال الدراما المصرية و المكتسحة جميع الشاشات والفضائيات , والتي تصور أكثر نساء مصر بالراقصات ورجالها بالبلطجية ..ولم لا ?! إذا كان ما يقارب من 80% من أفلامنا المصرية تدور حول قصص داخل المراقص (أو ما يسمى بالكباريهات ) او تحمل مشهدا أو أكثر يتم تصويره داخلها , وعلى الرغم من أن عدد تلك المراقص والنوادي الليلية في مصر كلها لا يتعدى عدد أصابع اليدين فصناع أفلامنا المصرية لا يرون بمصر سواها , ولا يصدرون للعالم سوى صورة الحياة داخل تلك الأماكن , والرجل المصري ( بطل الفيلم ) حينما يحزن أو تقابله مشاكل في حياته أو تهجره حبيبته يهرع إليها , يهرب من مشاكله في شرب الخمور وبين أحضان الراقصات , أما الراقصة فهي تلك المرأة الشريفة العفيفة المكافحة ( والتي تخرج من بيتها للكباريه ومن الكباريه للبيت ) وهي تحمل شهامة ومرؤة لا تحملها أفضل النساء , فهي من تعول أمها المريضة وإخوتها اليتامى , ومن تضحي بحياتها من أجل من تحبه , أما تاجر المخدرات فهو ذلك الرجل الذي قهرته الحياة ليصبح رغما عنه في تلك المهنة والتي لا تمنعه من أن يكون شهما ذو مروءة يحمي ابناء حارته ويساعد المحتاجين منهم , وكما اوضحت لنا الدراما المصرية تلك الحقائق التي خفيت عن ملايين منا ( نحن الشعوب المصرية والعربية ) والتي باتت تعرف كل خبايا الحياة وتفاصيلها داخل تلك النوادي الليلية والمراقص , حتى وإن عاش ومات أحدنا ولم تطأ قدمه أي منها , كذلك فقد أوضحت لنا الدراما المصرية الحقيقة الخفية لكل علماء الدين الإسلامي , و الذين هم بين ثلاثة أنواع : إما منافق أفاق متلون يكتسب من متاجرته بالدين ونفاقه للسلطة , لا يعلم من الدين سوى قوله تعالى ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [ سورة النساء 59 ] ( كما في فيلم _ الزوجة الثانية_ على سبيل المثال ) , أو بين إرهاربي متشدد يقول خلاف ما يعمل , فهو شهواني يحب النساء يحمل أطماعا لا حصر لها ونفسا خبيثة تتستر خلف ستار الدين ( كمثل فيلم _الإرهابي_ وفيلم _طيور الظلام_ ) , وإما إمام مسجد لا يبرح صلاته و لا يخرج من مسجده .. لا يعلم شيئا عما يدور خارجه , يبشر الجميع بالجنة و يستوي في ذلك لديه : البر والفاجر ( وهي الصورة الأوسع انتشارا ) , و لكن لأن الدراما المصرية لا يفضل صانعوها التطرق أساسا إلى المساجد , و أفلامنا لا تعرف سوى قصص العشق والهيام , فإنه يرمز غالبا لرجل الدين الإسلامي بشخصية ( المأذون ) والذي توكل إليه مهمة الجمع بين الحبيبين أبطال الفيلم , وهو ذلك الرجل الذي يلبس زي الأزهر الشريف ويلقب بكلمة ( مولانا ) , و ينتقل غالبا بالدراجة , و يتحدث دوما باللغة الفصحى , و بطريقة تثير الضحك والسخرية , ولا يفهم كلامه أحد . وفي دراسة بحثية عن الدراما السينمائية في مصر , وجد أن أكثر ثلاث شخصيات تمت إهانتهم وتشويههم بطريقة فجة ومتعمدة كانوا هم : المأذون , و مدرس اللغة العربية ( من منا لا يذكر أ. حمام وأفلام نجيب الريحاني ومسرحيات فؤاد المهندس وغيرهم ? .. و الحكمة بالطبع من تشويه مدرس اللغة العربية وهدم صورته هو هدم اللغة التي هي وعاء الدين والحافظة له ) , والحما ( وهي أم الزوج أو الزوجة ) و كلنا يتذكر عشرات الأفلام التي تتحدث عن ذلك الكائن العجيب والمروع الذي هبط من الفضاء على الزوجين والحبيبين ليعكر صفو زواجهما وأنس حياتهما ألا وهي ( الحما ) , { أمثال : فيلم ( حماتي قنبلة ذرية ) و( الشقة من حق الزوجة ) وغيرها الكثير والكثير }. وبخلاف الراقصة والبلطجي وتاجر المخدرات , فالجميع مشوه , والجميع تمت إهانته , فهو إما أن تكون معلم فقير مهان لا تملك قوت يومك , وإما أن تكون طبيب جشع أو مهندس فاسد , أو موظف مطحون تعيش حياة ضنكا , ولن تستمتع بحياتك إلا أذا أصبحت مرتشيا و فاسدا , أما الوحيد الذي نال إحترام الدراما المصرية وحظي بأعلى درجات التقدير والتبجيل فهو : رجل الدين المسيحي (من قساوسة و رهبان ) . والناس في الدراما المصرية بين طبقتين : طبقة إجتماعية راقية , تحمل أعلى الشهادات العلمية , وتمتلك مواقع السلطة والقيادة , وهؤلاء لا يعرفون شيئا عن الدين , فالأحياء الراقية التي يعيشون بها لا تمتلك سوى النوادي والملاهي الليلية , ولن تجد المسجد سوى في الحارة والأزقة والقرى والنجوع , حيث طبقة إجتماعية متدنية تعيش في الفقر المدقع و ينتشر بها الجهل والجريمة , وبين أضلاع ذلك المثلث ينشأ الدين و ترى مظاهره , والتي يتم تقديمها على أنها مظاهر للتخلف والرجعية . ذلك هو ما تقدمه لنا الدراما المصرية بشكل عام , أما عن ذلك الإنتاج الضخم من برامج تليفزيونية وإذاعية كغثاء السيل , فبخلاف حمى البرامج السياسية التي اجتاحت إعلامنا بعيد ثورة الخامس والعشرين من يناير , و نغصت علينا حياتنا وكدرت معيشتنا , وتم استخدامها من قبل ( فلول النظام السابق ودولته العميقة وبعض الأنظمة الديكتاتورية العربية التي تخشى انتقال الثورة إليها ) و توجيهها لصنع أشرس حملة إعلامية في التاريخ لتشويه التيارات الإسلامية وهدم تجارب ثورات الربيع العربي ( و التي أوصلت الديمقراطية فيها تلك التيارات إلى سدة الحكم ) , فإن سيل برامجنا التليفريونية يدور غالبا : حول حياة الفنانين والفنانات والراقصين والراقصات و المطربين والمطربات , ماذا يفضلون ? , وماذا يتناولون في وجبة الأفطار ? , والألوان التي يعشقونها , والملابس والأزياء التي يرتدونها .
بالإضافة طبعا لبرامج صناعة النجوم , والتي تجيش الشباب العربي لتستخرج منه مواهب الطرب والغناء , وينفق عليها مئات الملايين وتحظى بأعلى المشاهدات , فنحن أمة لا ينقصها سوى المزيد من المطربين والمطربات , وحلم شبابها إما أن يكون نجما في عالم التمثيل أو الغناء أو نجما في ملاعب كرة القدم ..هؤلاء هم النجوم لدينا ..وتلك فقط هي المواهب المعترف بها ... فلا عجب مما وصلت إليه أحوالنا بين الأمم .. وقد صدقت فينا مقولة ( جوبلز ) وزير الإعلام النازي و أشهر وزراء الإعلام في التاريخ ..حينما قال : { أعطني إعلاما بلا ضمير , أعطيك شعبا بلا وعي } فشكرا لإعلامنا المصري والدراما المصرية !!! بقلم : شرين عرفة