استطاع نظام القذافي أن يحكم ليبيا 42 عامًا، تنوعت فيها سياساته في الحكم بين مراحل عدة؛ بدايتها كانت تختلف إلى حد ما، ثم تحولت تدريجيًّا إلى أن اتسمت باعتماد النظام على الفوضى ليستمر من خلالها في الحكم منذ بدء تنفيذ ما كان يطلق عليه السلطة الشعبية. وتبنى فكرة السلطة الشعبية على نظرية مفادها مؤتمرات شعبية ينخرط فيها سكان كل منطقة من أجل أن تقرر مصيرها والقرارات الهامة لها، واختيار لجان شعبية لتنفيذ ما يقررون، على هذه الشاكلة النظرية المكتوبة يخيل لكل متابع أو قارئ لهذا الشكل أنه نظام بديع وفي قمة الديمقراطية، ولكن الأمور واقعيًّا لم تكن كذلك إطلاقا، فكانت مسرحية سلطة الشعب ما هي إلا حركة انقلب بها القذافي على مجلس قيادة الثورة لينفرد هو بالحكم، مدعيًا أنه يسلمه للشعب، وأن أي محاولة لمعارضة هذا التوجه هي معارضة لتسليم السلطة للشعب. ثم كون بعد ذلك ما سمِّي باللجان الثورية والحرس الثوري، وهي أجهزة أمنية موازية تمامًا للبوليس السري، وبعدها وفي كل فترة تتكون أجسام جديدة مثل الرفاق، ثم أبناء الرفاق أو مواليد الفاتح، وروابط شباب القبائل وغيرها. ومن خلال هذه التشكيلات تعددت الأجهزة الأمنية، وهي الوحيدة التى كانت تعمل بقوة وحسم لحفظ أمن النظام، ثم ظهرت فكرة الشعب المسلح، ومن خلالها ألغي الجيش والأمن الشعبي لإلغاء الشرطة وكثر الأمراء في السلطة بليبيا، البداية الضباط الأحرار وهم أيضا فيما بعد تم تصنيفهم وأدخلت عليهم أعداد من قبيلة القذافي وقبائل أخرى مقربة يختارهم شخصيًّا أصبحوا هم أيضا أمراء يحكمون بأسمائهم أكثر من صفاتهم، ومعهم قيادات اللجان الثورية، وقيادات الحرس الثوري، أما هياكل المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية فقد كانوا منفذين للتعليمات أكثر من أن يكونوا مشاركين في الحكم، ثم جاءت فترة تثوير الإدارة وهي إدخال أعضاء اللجان الثورية في اللجان الشعبية، وهنا أصبح هناك مسئولون باللجان الشعبية من الثوريين، وهم درجة أولى، ومسئولون في اللجان الشعبية من غير اللجان الثورية وهم درجة ثانية، بعدها كبر الأبناء وأصبح لكل منهم ديوان أميري وأتباع، وأصبحوا بحكم الواقع أمراء الأمراء، وانتهت بشكل نهائي هياكل الدولة الرسمية، وتمت شخصنة الإدارة، فوجدنا فيها مكتب سيف، مكتب المعتصم، ومكتب جماعة عبد الله.. إلى آخر هذه القوائم، وهؤلاء واقعيًّا هم الذين يحكمون ليبيا وليس ما يسمى بأمناء اللجان الشعبية، ولذلك عندما أرى بعضًا من الأمناء يحاكمون أعرف أننا مازلنا نقع في نفس المسار الذي وضعه لنا القذافي، فنحاكم من ينفذ الأوامر ولا يملكها، ونترك من يصدر الأوامر. عمومًا هكذا كانت البلاد تعيش في فوضى غريبة تنشئ المحافظات، ثم يتم تغييرها إلى بلديات، ثم يتم ضمها، وسنة أخرى تفكك، وبعدها تتحول إلى شعبيات، ثم تلغى، وهكذا الأمر، والشعب الليبي كلما يحتقن، يتم تقديم بعض الحلول الواهية المسكنة إلى أن قامت الثورة الشعبية العارمة، وكانت متوقعة بل خلال مسيرة هذا النظام الفوضوي حدثت العديد من المحاولات، ولكن قدرات أجهزة القذافي الأمنية الكبيرة وتعاونها مع أجهزة أمنية من دول الجوار ومن دول أخرى كانوا يتسابقون لإبلاغه للحصول على رضاه وأمواله، التي هي أموال الشعب، ويتم وأد المحاولات. قامت الثورة في فبراير وخرج المواطنون في الشرق الليبي بحماس منقطع النظير مفجرين لهذه الثورة، وهنا نقول: إن بقية مناطق ليبيا انقسمت إلى ملتحمة مع الثورة منذ البداية أو متعاطفة ومؤيدة لها سرًّا بدون فعل ثوري، أو مضادة لهذا الحراك الشعبي.. وبصرف النظر عن كل هذه التحليلات انتصرت الثورة بإرادة هذا الشعب واستعداد أبنائه لمقابلة القوة بالقوة ولدعم المجتمع الدولي المنقطع النظير الذي أسهم في نجاح وقدرة شباب الثورة على تحقيق النصر، وقلت وأؤكد أن نظام القذافي وهو شخصيا وأولاده بتصرفاتهم المشينة مع دول العالم جعلت كل الدول تسعى لمساعدة أي جهد فاعل للخلاص منه وإراحة العالم من هذه التصرفات الفوضوية غير المسئولة من ناحية، ومن ناحية أخرى شراكة الدول الأوروبية مع ليبيا في النفط والتخلص من مافيا القذافي في عمليات النفط. وانتصرت الثورة، وكان حلم كل ليبي- بدون استثناء- بعد أن استنشق عبير الحرية أن يرى قرى نموذجية ومدنه مثل مدن دول البترول العربية، ويشعر بكرامته في بلاده، ويستنشق هواءً نقيًّا وتتعافى صحته بفعل تطوير نظام الرعاية الصحية، ويتعلم أبناؤه أحدث وأفضل العلوم من خلال تحسين المنظومة التعليمية، ويحصل كل مواطن ليبي على حقه ويكون هو وغيره أمام القانون سواء. هذا ما كنا جميعًا نطمح إليه، ولكن الأمر تحول إلى فوضى من نوع آخر، أكدت أن الفترة الزمنية الفوضوية التي غرسها نظام القذافي مازالت فينا، فتحول كل ليبي إلى دولة- لا أقصد التعميم- وأصبحت عبارة ليبيا حرة جواز سفر لمرور أي مخالف للقواعد والقوانين وحتى الأخلاق للأسف، شباب السلاح ازدادوا وكونوا مجموعات مسلحة لا تحترم الناس في كل مكان، وزادت عملية النصب التي بدأت بالنصب علي حيتان النظام القذافي بأخذ إتاوات منهم من أجل تهريبهم أو المحافظة على أملاكهم، ثم تحولت لبقية الناس فظهرت مظاهر الخطف والقتل والسرقة بالإكراه، كل ذلك مع حكومة هزيلة ومؤتمر يتصارع أعضاؤه بدون علم ولا دراية حتى بأصول الصراع السياسي، وقيادات معارضة رجعت بأفكار ترغب في تنفيذها متناسية أن المجتمع غير واعٍ وغير ناضج لهذه الأمور. سلاطين الفساد من الثوريين تحالفوا مع الفساد السابقين في الخارج والداخل، وبدأ النهب لثروات ليبيا على المكشوف، شارك فيها حتى المواطن الذي يستلم مكافآته أكثر من مرة، وجهات الوعظ والإفتاء دخلت في لعبة السياسة وتركت دورها في بث أخلاق الإسلام لتكون حصنًا منيعًا للشباب يحميه من الانزلاق في هذه الأفعال. أصبحت الفوضى الآن شعبية منتشرة بشكل واسع؛ ولكن الأمل مازال موجودًا، وفي تصوري فإن الأمر يحتاج إلى تصحيح سريع ببعث نظام حكم جديد تكون فيه الولايات أو الأقاليم أو المحافظات هي الأساس، وهو الذي يتناسب مع تطلعات الشباب الثوري في المناطق للوصول إلى السلطة، فليختارهم ناسهم ويقودون محافظاتهم تحت مظلة نظام حكم فيدرالي ليبي له شكله الخاص، ونسرع بإعداد الدستور الذي يبني على هذا الأساس. ولا يمكننا أن نصل إلى نتيجة فاعلة في وأد هذه الفوضى إلا بالجلوس والحوار، واعتمادي في ذلك على الحكماء ومشايخ القبائل الليبية وتاريخهم المشرف في وأد الفتن وتجسيد اللحمة الوطنية وأيضًا أنني أعتقد بل أجزم أن الأممالمتحدة ودول أصدقاء ليبيا لن تتركنا لتنفيذ هذا الحوار الذي سينتج عنه توافق لإعداد دستور نتفق عليه جميعًا. كفانا فوضى نظام وفوضى شعب، ولنتحاور لنبني دولة ليبيا. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.