أول ما تفكر فيه بعض الحكومات أو المنظمات الأهلية عند ارتفاع الأسعار هو الدعوة إلى مقاطعة السلعة التى غلا ثمنها .... صحيح أن قلة الطلب على السلع تؤدى إلى انخفاض السعر طبقاً لقانون العرض و الطلب و لكنى لست مع فكرة المقاطعة كسبيل وحيد لعلاج مشكلة على مستوى المجتمع .... فليس من المعقول أن نحمّل الشعب كل المعاناة بمقاطعة مواد غذائية أساسية يحتاج إليها المواطن كتغذية صحيحة له و لأبنائه ؛ و من ثم فإن المسألة أكبر من أن تتعامل معها الحكومات بهذه البساطة . و الناظر إلى النظام الإقتصادى فى الإسلام يجد أن هناك حلولاً لمثل هذه المشكلات دون اللجوء إلى التضييق على المواطن بالمقاطعة و دون الإضرار بالتجار بكساد البضاعة عندهم أو بيعها بالخسارة و ما يترتب على ذلك من أضرار عامة بالإقتصاد و لقد شاهدنا فى مرحلة السبعينات حينما تقرر وقف ذبح العجول لمدة شهر و الاعتماد على البدائل من اللحوم البيضاء و الأسماك وقعت خسائر فادحة فى قطاع تسمين العجول حيث خسر الكثير من التجار و ترك بعضهم العمل فى هذا القطاع فى حين ارتفعت أسعار الدواجن و الأسماك لكثرة الإقبال عليها !!. و لم تؤت فكرة المقاطعة ثماراً تُذكر إلا لأصحاب المصلحة من مستوردي الدواجن المجمّدة التى ملأت الأسواق آنذاك !! بل و لم تنخفض أسعار اللحوم بعد المقاطعة . و لكن النظام الإسلامى رسم الحدود فى العلاقة بين البائع و المشترى بتدخل الدولة لضبط حركة السوق ضد جشع التجار من ناحية مع عدم الإضرار بإقتصاد البلاد من جهه أخرى ؛ و لعلنا نلاحظ أن وضع تسعيرة لبعض السلع يحقق هذا التوازن فمن أخلّ من التجار يلزم بالبيع بالسعر المحدد طالما طرح هذه المواد الغذائية للبيع كما يتم مواجهة محتكرى السلع و تجار السوق السوداء ؛ ثم إن مبدأ التنمية الإقتصادية هو أساس هذه المعالجات حيث يتم توفير إمكانيات مادية لتنمية الصناعات فى القطاع الذى ظهر فيه العجز لتحقيق كفاية السوق ؛ و لعلنا أيضا نلاحظ أن مشروع البتلو كان يُسهم فى توفير اللحوم الحمراء و يحد من إرتفاع الأسعار و لذلك تم التآمر عليه و وقف مخصصاته المالية و لم يكن ذلك فى مصلحة المستهلك أو العاملين فى قطاع التسمين بل كان هذا الوقف فى صالح كبار مستوردى اللحوم الحمراء !! ثم لماذا نذهب بعيداً و عندنا مثال قريب حين أرادت الحكومة المصرية استيراد صفقات من اللحوم الحية من أثيوبيا أو الصومال أو السودان بأسعار معقولة أسرع كبار المستوردين إلى الاتصال بهذه الدول لتقديم بعض الرشاوى المالية لرفع السعر فتزداد ربحية الدولة المصدرة و تبقى الأزمة كما هى لصالحهم !! و حين وقعت أزمة السكر لم تتعامل الحكومة على المستوى اللائق بضبط السوق و لكنها بادرت إلى إغراق الأسواق بالسكرالمستورد فاستفادت الدول المصدرة من عائد النقد الأجنبى و لم نشعر كمواطنين بتلك المعالجة على مستوى خفض الأسعار بل كادت هذه الزيادة عن حاجة السوق أن تضر بشركاتنا المحلية و مصانعنا الوطنية ؛ و يحضرنى خبر قديم فى مطلع السبعينات ألقى عليه الضوء حتى نتصوركيف يُدار النظام الإقتصادى المصرى و أين مكانة و أهمية المواطن فى عقول المسئولين ؛ و مضمون هذا الخبر أن أحد المستثمرين الوطنيين أراد أن يتولى الصيد من بحيرة ناصر و تنميتها بمعرفته و بيع الأسماك طازجة بأسعار زهيدة على طول مجرى نهر النيل من خلال مصايد سمكية عائمة معلقة فى سفن الصيد التابعة لشركته و العجيب أنه لم يوافق أحد على طلبه و تزايدت أسعار الأسماك و فسدت مياه النهر و قل انتاج البحيرات فى مقابل تزايد عدد السكان بل و ركزت الدولة على فتح باب إستيراد الأسماك و عندنا شواطئ بأطوال هائلة على البحر الأحمر و الأبيض فضلاً عن مجرى نهر النيل و البحيرات المتعددة فى الشمال و الجنوب !! فلمصلحة من تم كل هذا ؟! إن فكرة المقاطعة فكرة فاشلة و دعوة قاصرة حين تضر بأصحاب المشروعات الصغيرة و أيضاً حين تضر بأحوال المستهلك و تضيق عليه أكثر مما هو فيه من ضنك العيش .. و الحل يكون فى التنمية المحلية لقدرات هذا المجتمع و أن يراعى كل مسئول حق المواطن عليه فى توفير حد الكفاية له و ليس مطالبته بالصبر جوعاً على جوعه !! إن فكرة المقاطعة تصلح فى مواضع أخرى لا تكون فيها أقوات الشعب فى مهب الريح أو معرضة للتلاعب .... و لقد استعمل السابقون سلاح المقاطعة فى التعامل مع الخصوم للإضرار بهم فنحن لا ننسى ما فعلته قريش برسول الله صلى الله عليه و سلم و قرابته حيث حاصروهم فى شعب أبى طالب نحو عامين أو أكثرو حظروا التعامل معهم فى البيع و الشراء و نحو ذلك بهدف التضييق عليهم حتى يسرالله لهم و تم فك المقاطعة الإقتصادية و الإجتماعية .... و لقد استعملت الدول الحصار الإقتصادى فى حالات الحروب بحظر سلعة أو بعض السلع المؤثرة و نحو ذلك من الأشياء التى تحتاجها الجماهير بهدف تحقيق الضغط الشعبى على الحكومات لترضخ للشروط و المطالب . و من جهة أخرى نرى أن بعض المنظمات المحلية تطالب الشعوب بمقاطعة بعض الشركات التى تنتمى إلى دول معادية للأمة الإسلامية للإضرار بها و هذا أمرطيب خاصة أن أموال هذه الشركات تصب فى النهاية لصالح تمويل الأنشطة المعادية للإسلام و لكن يبقى أن تسعى الحكومات لتوفير البدائل حتى لا نشق على الشعوب بتحميلها الكثير من التضحيات .... فلا يُعقل أن نطالب الشعوب بمثل هذه المواقف و فى نفس الوقت تسير السياسات فى صالح تقوية روابط التطبيع مع اليهود على مستوى التعاون الإقتصادى و الثقافى بل إن تعديلات منهجية جوهرية فى برامج التعليم نالت من عقيدتنا الإسلامية و غيرت مواقف مبدئية لا يجوز المساس بها و هو ما يضر مستقبلاً بوعى الأجيال القادمة بقضاياهم المصيرية ثم إنه ليس من المنطقى أن نطالب الجماهير بمقاطعة السلع الأساسية و الضرورية و سياسة الحكومة لا تدفع فى اتجاه التنمية و إيجاد الصناعات البديلة التى تسد حاجة المواطن و تحقق الإكتفاء الذاتى من إحتياجاتنا و هنا نستطيع أن نفرض كلمتنا بإرادتنا كأمة و نقاطع من رأينا وجوب مقاطعته دون أن تلحقنا الأضرار من هذه المقاطعات . حقاً ..إننا بحاجة إلى سياسات تنمية و توعية أكثر من حاجتنا لدعاوى المقاطعة !!؛