شهدت الأشهر الأولى من هذه السنة محاولة تركيّة لإعادة إحياء آمالها و طموحاتها بالحصول على الطاقة النووية بعد أن أخفقت مرّات عديدة سابقاً في إطلاق برنامجها النووي الخاص. لكن الإصرار التركي حالياً للحصول على الطاقة النووية يبدو كبيراً جداً، و مدفوعاً بعاملين أساسيين. يتمثّل العامل الأول بالنقص الكبير في الطاقة، و الذي تعاني تركيا منه داخلياً مع ازدياد الطلب عليها, في حين يتمثّل العامل الثاني بسعي جارتها إيران لامتلاك القوّة النووية الذي من الممكن أن يهدد توازن القوى الإقليمي القائم حالياً. فقد ارتبط السعي التركي لامتلاك برنامج نووي نشيط منذ الستينيات و إلى يومنا هذا بوجهتي نظر داخليتين على المستوى الحكومي الرسمي. تستند وجهة النظر الأولى على مبدأ الاستخدام السلمي للطاقة النووية, و تنطلق وجهة النظر هذه من حقيقة النقص الكبير الذي تعاني منه تركيا في قطاع الطاقة، و محدودية الموارد المتاحة لديها في هذا المجال، و اعتمادها بشكل شبه كلّي على الآخرين لتسيير أمورها في مجال الطاقة على الصعيد الداخلي، و هو ما يُعدّ غير مقبول على الإطلاق لدولة بمكانة و مركز و تاريخ تركيا في المنطقة. أما وجهة النظر الثانية فتستند إلى مبدأ امتلاك السلاح النووي, و تنطلق وجهة النظر هذه من أنّه لا يصح لتركيا كدولة محورية و مركزيّة في الشرق الأوسط أن تبقى معتمدة على الغطاء العسكري الغربي المتمثّل بالناتو؛ فتركيا بلد له قدرات و إمكانات كبيرة، و له فوق ذلك تاريخ، و ماضٍ في قيادة دول المنطقة أيام الخلافة العثمانية , و من هذا المنطلق فمن غير المقبول أن تصبح تركيا محاطة بعدد من الدول منها ما هو نووي كروسيا و إسرائيل, و منها من هو على الطريق كإيران, و تبقى تركيا بالتالي تحت رحمة هذه الدول دون امتلاكها لقوة رادعة. • المحاولات السابقة: تُعدّ تركيا من أوائل الدول الإقليمية التي سعت للحصول على القدرات النووية؛ فالانخراط الأول لتركيا في القضايا النووية كان في تموز من العام 1955, عندما وقّعت تركيا مع الولايات المتّحدة الأمريكية اتّفاقاً ثنائياً للتعاون في مجال "الاستخدام السلمي للطاقة النووية". ثمّ بعد ذلك بسنة, أنشأت تركيا في العام 1956 لجنة الطاقة الذريّة (AEK) التي أُعيد تشكيلها فيما بعد في العام 1982 لتصبح تحت اسم (سلطة الطاقة الذريّة التركيّة)(TAEK)، وهي تتبع مباشرة لمكتب رئيس الوزراء التركي. و في العام 1959 تمّ البدء بإنشاء أوّل مفاعل نووي تركي للأبحاث بطاقة 1 ميغاوات, باسم ( تركيا 1) (TR-1) في موقع (مركز جكمجا النووي للبحث و التدريب), و قد واجه هذا المفاعل وضعاً حرجاً في العام 1962، و تم التبليغ عن إغلاقه في العام 1977 لأسباب مالية كما قيل. بعد ذلك بثلاث سنوات, تمّ ترقية المفاعل إلى قوّة (5) ميغاوات، و قد عُرف باسم (مفاعل تركي اثنان) (TR-2). و قد عانى هذا المفاعل من مشاكل عديدة في كانون الأول من العام 1981 ثمّ في آذار من العام 1993؛ إذ تمّ الإبلاغ عن حصول تلوّث إشعاعي في محيط البحيرة. فتم إغلاقه فيما بعد في 8 آب من العام 1995. و قد تقرّر إعادة تشغيل المفاعل (تركي اثنان) في العام 1998 بعد أن تمّ تأمين (الفيول) أو الوقود اللازم له من قبل شركة فرنسية. و قد حاولت تركيا فيما بعد الحصول على القدرات النووية في خمس محاولات خلال (3) مراحل تقريباً. المرحلة الأولى: و توزّعت المحاولات فيها بين الأعوام 1965-1980, و التي شهدت محاولتين من تركيا واجهتا الكثير من المصاعب، و أخفقتا عند البدء بتنفيذ المشروعات, و يمكن اختصار المصاعب التي مرّت بها تركيا في هذه الفترة للحصول على الطاقة النووية بالأسباب التالية: 1- بيروقراطية شديدة في العمل و عدم متابعة للموضوع بشكل مستمر. 2- مصاعب مالية تتمثّل بالطلب من الجهات المسؤولة عن إنشاء المفاعلات أو الجهات الممولة القيام بالتمويل الكامل للصفقة بنسبة 100% دون وجود ضمانات مالية. 3- عدم الاستقرار السياسي. 4- الانقلابات العسكرية. المرحلة الثانية: و شهدت محاولتين أيضاً بين الأعوام 1982-1991. و قد باءت المحاولتان أيضاً بالفشل، معطّلة بذلك حصول تركيا على مفاعلات نووية, و ذلك لعدد من الأسباب منها: 1- المصاعب المالية و عدم القدرة على تأمين الأموال اللازمة للشروع في بناء مفاعل نووي. 2- المصاعب التقنيّة المتمثّلة في إيجاد موقع مناسب للمفاعلات بعيداً عن المناطق الخطرة المعرّضة للزلازل و التشقّقات الأرضيّة. 3- الضغوطات الدولية الخائفة من خطر حصول انتشار نووي، و من قدرة تركيا على امتلاك سلاح نووي فيما بعد. و قد كان الضغط في هذه المرحلة على تركيا من قبل جهتين أساسيتين تعارضان مساعيها النووية, الأولى الولايات المتّحدة و الثانية الدول الأوروبية. و كان الاعتراض الأساسي لهذه البلدان على المفاعل المنوي إقامته في تركيا, بأنّه يُعدّ صغيراً جداً لتوليد الطاقة و كبيراً جداً للأغراض البحثيّة, و لكّنه سيكون قادراً بشكل ممتاز على إنتاج البلوتونيوم، و هو ما يشكّل تهديداً محتملاً فيما يتعلّق بانتشار الأسلحة النووية. و قد حاولت تركيا فيما بعد إعادة إطلاق مشروع مفاعل (أوكويو) النووي في التسعينيات، و لكنّها أخفقت كما أخفقت في المحاولات السابقة، و قد كانت هناك معارضة شعبية هذه المرّة أيضاً نظراً للمخاطر التي قد تنجم عن استخدام المفاعلات النووية. • المحاولات الحالية: ذكر وزير الطاقة التركي (حلمي اوغلر) في شهر شباط من هذا العام "أنّ الارتفاع في أسعار النفط و البحث عن مصادر متعدّدة للطاقة يجعل مشروع الطاقة النووية أولويّة كبرى بالنسبة لنا". و قد كشف رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في 10-2-2006 أنّ الاتصالات بوكالة الطاقة النووية قائمة للبحث عن إعلان برنامج تركيا للطاقة النووية, و أنّ هناك مباحثات مع بعض الدول ككندا حول هذا المشروع, معللاً لجوء بلاده إلى الطاقة النووية إلى محدودية مصادر الطاقة التركية, معتبراً بأن المشروع سيكون مشروعاً وطنياً، و سيُقام على الأراضي التركية. و بعد أقل من يومين على إعلان إيران نجاحها في تخصيب اليورانيوم, حسمت تركيا أمرها، وقررت اختيار مدينة (سينوب) على البحر الأسود موقعاً لإقامة أول مفاعلاتها النووية, و ذلك من بين ثمانية مواقع جرى اقتراحها و تقييمها لإقامة مفاعل نووي تركي، من بين ثلاثة مفاعلات نووية تسعى تركيا لإقامتها. وأعلن (أوقاي شاكر) رئيس هيئة الطاقة الذرية التركية أن الرأي استقر على موقع (سينوب) لإقامة المفاعل بسبب تميّزه بالكثير من الخصائص من بينها عوامل جغرافية وأمنية وبيئية, مؤكداً أنه من الممكن دراسة مواقع أخرى لإقامة المفاعلين الآخرين، ومن بينها منطقة تراقيا ووسط الأناضول. ويبدو أنّ تركيا مصمّمة هذه المرّة لإعادة إطلاق طموحها النووي بعد أن أخفقت مرّات عديدة في تحقيق ذلك في فترة الستينيات, و هو ما يذهب إليه أيضاً (اوزدم سانبرك) رئيس مجموعة البحث و الدراسات الاقتصادية و الاجتماعية التركية الذي يعتبر أنّ امتلاك إيران للنووي سيجعلها القوّة المسيطرة في المنطقة، و سيطيح بالتوازن الموجود حالياً مع تركيا, و لذلك فلا خيار أمام تركيا سوى المضي قدماً في برنامج خاص للطاقة النووية يخضع لاتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية. المصدر : الاسلام اليوم