ثماني ساعات كاملة من المناقشات الساخنة استغرقتها الجلسة الطارئة لمجلس العموم البريطاني " البرلمان " يوم 29 أغسطس الماضي بشأن التصويت على توجيه ضربة عقابية لنظام الأسد بسبب استخدامه الكيماوي، هذا الماراثون الديمقراطي الراقي انتهى بخسارة حكومة جيمس كاميرون التصويت بفارق 13 صوتًا فقط، وفورًا أكد كاميرون احترامه لإرادة البرلمان وأنه لن يشارك في أي عمل عسكري. أزعم أننا في مصر نحتاج إلى مائة سنة على الأقل من الممارسة حتى تنضج الديمقراطية ونضع أقدامنا على طريق الديمقراطيات العريقة في بريطانيا وأمريكا وفرنسا وبقية البلدان الغربية التي هي النموذج المقبول والمعقول في الاحتكام للإرادة الشعبية واحترامها. يفاخر البعض بأن مصر عرفت الديمقراطية قبل بلدان أوروبية عديدة عندما تأسس مجلس شورى النواب عام 1866 في عهد الخديوي إسماعيل، وكان أعضاؤه من الأعيان والعمد والمشايخ، ثم يزيدون الفخر بالمرحلة الديمقراطية التي تلت ثورة 1919 حيث تم وضع دستور 1923 الذي أقر إنشاء مجلسين تشريعيين هما: النواب، والشيوخ، وهي تجربة جيدة لكنها لم تكن مكتملة، أي لم تكن ديمقراطية شعبية تشمل كل المصريين في الأرياف والصعيد والمدن، فلم تكن الممارسة متاحة للشعب بالتساوي والعدالة، فقد كان الترشح مقصورًا على شريحة محدودة من علية القوم من الإقطاعيين وكبار الملاك، والأعيان، أما أغلبية المصريين فلم يكن لديهم قدرة مالية للإنفاق على انتخابات، ولم يكن متاحًا لهم وجود أحزاب تقبل بترشيحهم، كانت هناك شريحة محدودة سواء في الوفد حزب الأغلبية الشعبية، أو في أحزاب الأقلية يتبادلون الحكم والوزارات والمناصب الكبرى وعضوية البرلمان بينما أغلبية المصريين تعيش على هامش الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبعد ثورة 1952 توقف هذا المسار الديمقراطي وخضعت مصر لحكم شمولي فردي وتنظيم سياسي واحد حتى جاء السادات وأطلق المنابر ثم الأحزاب وهذه واحدة من إنجازاته ورغم أنها كانت تجربة شكلية بغرض التباهي بها أمام الغرب، لكن يُحسب له أنه أعاد التأسيس لها بعد انقطاع دام 25 عامًا، واستمرت التجربة في عهد مبارك بين انفتاح محدود وتضييق متواصل، لكن تلك الحزبية المكبلة كرست واقعًا وأنتجت وعيًا عند قطاعات من المصريين من خلال الأداء في البرلمان لعدد قليل من النواب وصحف كانت أكثر انتشارًا وتأثيرًا من أحزابها. وهذا الوعي الشعبي هو أحد أسباب تفجر ثورة 25 يناير التي فتحت بابًا واسعًا من الأمل لبناء ديمقراطية ناشئة تتلافى كل سلبيات تاريخها السابق لكنها لم توفق في وضع بذرة التأسيس للديمقراطية الناشئة وفق المعايير العالمية وأحدث نسخها في التطور، فقد شهدت مصر صراعًا محمومًا بين جماعات وأحزاب وقوى سياسية بعضها قديم مثل: الوفد والإخوان، وبعضها أحدث منهما مثل القوى اليسارية والاشتراكية، وبعضها تبلور في السبعينيات مثل الناصريين، وقوى مستجدة في عهد مبارك، وأخرى ظهرت بعد ثورة يناير لتستفيد منها سواء عن إيمان بها أو انتهازية لها، لكنها كلها فشلت في إثبات ديمقراطيتها وجدارتها بقيادة المسار الديمقراطي وعلى رأسها القوى الدينية ممثلة في الإخوان والفصائل الأحدث التي خرجت منها. أثبتت القوى السياسية المصرية القديمة والوسيطة والحديثة أنها غير قادرة على حمل أمانة بناء ديمقراطي مدني حديث، وحتى شباب الثورة الذي كان الأمل في تأسيس جيل سياسي جديد بعقل وفكر منفتح ومتسامح ومتطور أثبت أيضًا أنه لا يختلف عن الجيل القديم الديني والمدني الذي يحمل إرث الماضي بما فيه من جراح وآلام وليس لديه أفق للحاضر ولا يتطلع للمستقبل. لم تستطع النخبة أن تدير صراعها السياسي المشروع وفق آليات سياسية ووطنية وفكرية وأخلاقية عقلانية هادئة توافقية فيها حرص على مصلحة الدولة والمجتمع وتماسكهما وتقدمهما، لكنها أدارت الصراع وفق آليات احتكارية أنانية إقصائية بمنطق الاستحواذ على كل شيء وحرمان الآخر من كل شيء، ويُحسب للتوانسة مثلاً أنهم بعد ثورتهم أسسوا " ترويكا " إسلامية علمانية يسارية للحكم وهو ما يحفظ تونس حتى اليوم من الانزلاق إلى متاهة مصر رغم أن ظلال الأزمة لم تنقشع. الفشل الذريع شاب جميع الفاعلين في المشهد السياسي، وهنا تتحمل جماعة الإخوان وفصائل الإسلام السياسي نصيبًا كبيرًا في المسؤولية عما آلت إليه مصر من انتكاسة ديمقراطية وتأزم اقتصادي وانفلات أخلاقي واجتماعي لأنهم حازوا السلطة ولم يقدموا نموذجًا جيدًا في أول خطوة تاريخية لهم في الحكم وكان يفترض أن يقدموا مبادرات في التسامح والتقارب والتوافق مع الآخر، وطمأنة الدولة العميقة المتوجسة منهم ، لكنهم أبدوا شرها للسيطرة والاحتكار والإقصاء، وهاهم اليوم يجدون أنفسهم خارج اللعبة سريعًا ويواجهون إقصاء مجتمعيًا على الأقل قد يقود لإقصاء سياسي بالقانون أو بدونه. لذلك فإن الطريق طويلة أمام مصر لتحبو في مهد الديمقراطية. مازلنا بعيدين عن بريطانيا وديمقراطيتها وبرلمانها، وجلسة الخميس الشهيرة شاهدة على ذلك. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.