تعود نشأة مصطلح الديكتاتور في التاريخ إلي الرومان، وكانت تشير الكلمة لمنصب رسمي عرفته روما القديمة في عصر الجمهورية قبل الميلاد بخمسة قرون، فقد كان نظام الحكم في ذلك الوقت يقوم على قنصلين يديران شؤون البلاد، مما يجعل اتخاذ القرار صعبًا في بعض الأحيان، لذا رأى الحكماء أن يوجد شخصا آخر يسمي "ديكتاتور" يكون له القول الفصل عند حالات الطوارئ، وفي الأوقات التي يحتاج اتخاذ القرار فيها إلى السرعة والحسم، ولكن لم يكن يسمح له بالبقاء في منصبه هذا لأكثر من ستة أشهر، وبعد فترة تطور الامر وإلغيت فترة الستة أشهر وأصبح الديكتاتور يبقي فترات أطول ثم اصبح مدي الحياة. ولكن يبدو أن صناعة الديكتاتور في العصر الحديث أصبحت حرفة مصرية خالصة لا ينازعنا فيها أحد في الكرة الارضية قاطبة وربما في الكون إذا كانت هناك ثمة مخلوقات بشرية في أي من الكواكب أو المجرات الأخري ولم يحدث بيننا وبينهم إتصال حتي الآن، والديكتاتور لا يولد ديكتاتورا ولا يصنع نفسه بنفسه ولكن يصنعه الآخرون، فالديكتاتور يصنعه الضعفاء والخبثاء من الحاشية المرافقة له والجوقة العازفة لاوركيسترا النفاق والمنتفعين من الطماعين الذين يظنون أنهم سيعيشون للأبد وإن ماتوا فإنهم سيأخذون أموالهم معهم إلي القبور. قبل أن نرصد كيف يصنع الناس الديكتاتور يجب أن نسجل بعض الصفات التي يتصف بها الديكتاتور عن غيره من البشر، فالديكتاتور مستعد للشر بطبعه ولا يلجأ لصناعة اليسير من الخير والإصلاح إلا مضطرا ومرغما تحت ضغط الرافضين للإنصياع لإنحرافه عن الطريق القويم، وعادة ما يكون لدي الديكتاتور استعدادا للإستبداد نتيجة لتشوه في تنشأته لظروف أُسرية أو مجتمعية أو قصور معين في صفاته القيمية والأخلاقية، والديكتاتور يتحكم في شئون البشر بإرادته وليس بإرادتهم وبما يحب هو لا بما يرغبون هم، ولأنه يعلم بأنه غاصب ومعتدي فيضع كعب قدمه علي أفواه الناس بغية سدها عن النطق بالحق والمطالبة بالعدل أو حتي البوح بالألم والصراخ من فرط الظلم والقسوة والجور والفساد أيضا، والديكتاتور يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من فولاذ يصده ويمنعه من التمادي في غيه، والحاجز الفولاذي الذي أعنيه هنا هو إرادة الشعوب، فلو رأي الظالم مع المظلوم وسيلة للردع من إصرار وعزيمة وصبر وسلمية لما أقدم علي الظلم أو استمر فيه. والعوام، والهوام أيضا، هم قوة الديكتاتور وقوته (أي طعامه) ويقع تحت قائمة الهوام كل المنافقين من رجال العلم والدين والثقافة والإعلام حيث لايصبح لهم وزنا ولا تأثيرا يذكر في صنع القرارات ولا في صفحات التاريخ أيضا، فإذا زاد الديكتاتور في صلفه زادوا في تقديم فروض الولاء والطاعة وإذا زاد من بطشة وقهره زادوا من الإستكانة وإستمراء الذل والقهر والمهانة، والأخطر من استسلامهم للديكتاتور وإنباطحهم لكافة قراراته هو التأثير في أتباعهم ممن يحسنون الظن بهم ويثقون فيهم فيزداد عدد المستسلمين. وعلي الرغم من أن الديكتاتور صنيعة من حوله وهو من يخيف الطير والبشر والحجر إلا ان خوفه من بطش الشعب - إذا ثاروا وإنتفضوا- أكبر وأشد من بطشه وتنكيله بهم، وذلك لأن خوفه نتاج علمه بما يستحقه من الرعية إذا دارت عليه الدوائر وما ذلك علي الله ببعيد ، بينما خوف الرعية من الديكتاتور ناشئ عن جهلهم بقوتهم اللامحدودة المتمثلة في وحدتهم –هذا إذا اتحدوا-، وتنازع الأحزاب والفصائل وتشرزمهم وتضارب مصالحهم الخاصة وإعلائها عن المصلحة العامة هو ما يعطي قبلات الحياة لأي ديكتاتور للعيش والسيطرة، وغرس بذور الشقاق والفرقة بين أبناء الشعب الواحد هو ما يبرع الديكتاتور في صناعته، فبقدر ما يستطيع من غزل ونسج خيوط الوقيعة بين الاخوة الاعداء بقدر ما يستمر في موقعه. والديكتاتور في بعض الأحيان يجرب في المناصب العليا بعض العقلاء والاذكياء اغترارا منه بأنه سوف يستطيع أن يُشكلهم كيف يشاء كي يدوروا في فلكه فيكونوا له عونا وسندا وينفعونه بدهائهم وخبثهم وذكائهم، وبعد تجربتهم، إذا خاب ويئس من إفسادهم بادر بإقصائهم والتخلص منهم أو التنكيل بهم جزاء ما صنعته عقولهم، لذا لا يستقر عند الديكتاتور إلا الجاهل العاجز أو المنافق أو صاحب المصلحة، هؤلاء الصنوف من المخلوقات الذين يعبدون الطاغية من دون الله، وأيضا لا يستمر مع الديكتاتور سوي الذكي الخبيث الذي يرضيه بسخط الله، وللأسف فإن الديكتاتور عادة ما يغير خط سير بلده من الترقي والتقدم إلي التخلف والإنحطاط.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.