في كل عهد يؤدي المسئولون فيه أدوارا ثم يغادرون مناصبهم، لكن تبقى كلماتهم ومواقفهم يسجلها التاريخ، إما لهم، أو عليهم، فلا تزول أبدا، ولليوم مازالت مقولة وزير المالية الوفدي أمين عثمان قبل ثورة يوليو بأن العلاقة بين بريطانيا ومصر مثل الزواج الكلاسيكي تُحسب عليه، وهي كانت أحد أسباب اغتياله في 5 يناير 1946 .كما يبقى الاتهام القاسي للرئيس السادات بأن مظاهرات 17 و18 يناير 1977 انتفاضة حرامية واحدا من المآخذ عليه، ومقولة مبارك "خليهم يتسلوا" تهكما على البرلمان الشعبي الذي أسسته المعارضة بعد التزوير الفاضح لانتخابات 2010 تمثل استهانته بالإرادة الشعبية التي أسقطته بعد أشهر قليلة، وهناك الكثير من المقولات والمواقف التي كانت وبالا على أصحابها. في أيامنا هذه فإن التاريخ سينصف الدكتور محمد البرادعي بأنه استقال من منصب نائب الرئيس احتجاجا على استخدام القوة في فض اعتصامي "رابعة" و"النهضة"، حتى لو كان سبق عملية الفض مجزرتين عند "نادي الحرس الجمهوري" و"المنصة " واكتفى فيهما بالإدانة موزعا المسئولية بالتساوي بين المتظاهرين وبين من استهدفهم بالرصاص الحي. لكن بالمقابل أتصور أن حكم التاريخ قد لايكون في صالح الدكتور حازم الببلاوي، ليس فقط لأنه رئيس الحكومة الذي حصلت تلك المجازرفي عهده، ومازالت الدماء تسيل في الشوارع لليوم ، إنما لأنه خرج ليبرر مجددا الاستخدام المفرط للقوة في فض الاعتصامين في حواره مع قناة أمريكية مؤخرا، فلم يتحرج أن يدعي في رده على أسئلة المذيعة أنه "هناك أوقات ترتكب فيها جرائم وحشية، لكن هذا لا يعني أن يصبح هذا أسلوب حياة"، علاوة على تشبيهه الصادم لضحايا عملية الفض بما فعلته أمريكا في فيتنام والحرب العالمية الثانية!!. كنت أظن أنه بعد أسبوعين مما حصل وبعد كل مايتكشف من جوانب تلك المأساة أن يسعى رئيس الحكومة لتطبيب جراح أسر وأحبة الضحايا، ومحاولة ترميم جدار السلم الأهلي الذي يتمزق بكلمات مقبولة وليس استفزازية ، لكنه مازال على موقفه المتشدد مما حصل، وهذا منطق يصعب فهمه من رئيس حكومة لا يشعر بوخز الضمير لسقوط أكبر عدد من الضحايا في اعتصامات ومظاهرات في تاريخ مصر الحديث في عهده وفي زمن قصير، فهو في حديثه يعترف للمذيعة بأنه لم يشعر بتأنيب الضمير، إنما الذي يشعر به هو السوء لمقتل أناس هنا وهناك. الدهشة كانت معقودة على وجه الإعلامية الأمريكية، فهي لا تكاد تستوعب ماتسمعه من هذا المسئول الرفيع أحد أركان السلطة الحاكمة بشأن دماء مواطنيه التي سالت بسبب اللجوء للقوة ، وقد كان ممكنا تجنب إراقتها بمزيد من الصبر والحوار، وكادت المفاوضات تنجح في فض الاعتصامات سلميا كما قال البرادعي الذي كان يقوم باتصالات في هذا الشأن، ذلك أن روح إنسان واحدة أهم عند الله من الكعبة المشرفة، وقد لاحظت أن زملاء المذيعة في الاستديو في واشنطن كانوا في حالة استغراب مما يقوله رئيس الحكومة وهو مبتسم ، فهو فضلا عن تبريره ل " الوحشية "، فإن التشبيه الذي لجأ إليه غير مقبول ، كأن من قام بقمع المظاهرات وفض الاعتصامات هي قوات أجنبية تخوض حربا ضد شعب أخر، ومن هنا يكون مبررا في منطق وعرف الببلاوي أن تُرتكب أعمال القتل دون تأنيب الضمير. لو كان فض اعتصام مثل هذا قد حصل من جانب إسرائيل مثلا تجاه فلسطينيين بنفس الطريقة،رغم أنها " عدو "، ترى ماذا كان سيقول الببلاوي وغيره ممن يوفرون كل الذرائع للتغطية على ماجرى، وليس التحقيق النزيه ومحاسبة من تجاوز القانون من الطرفين، ولماذا نذهب بعيدا فهو – الببلاوي نفسه - قدم استقالته من حكومة الدكتور عصام شرف في نوفمبر 2011 ، وكان وزيرا للمالية ونائبا لرئيس الوزراء احتجاجا على مجزرة "ماسبيرو" وقال بعدها لبرنامج "العاشرة مساء" إن الحكومة التي لا تكون غير قادرة على حماية دماء مواطنيها عليها أن تستقيل، ولن نقلل من شأن 26 نفسا بشرية سقطت في "ماسبيرو" مقارنة ب ألف أو أكثر في "النهضة" و " رابعة " ، فمقتل نفس واحدة بغير حق يعادل قتل الناس جميعا، لماذا لم يستقل؟، أليس هؤلاء مواطنون مصريون، أم هم من الأغيار؟، هنا يظهر التناقض والازدواجية لدى بعض دعاة الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان في تلك الفترة العصيبة من تاريخ مصر التي تسودها الكراهية ودعوات استئصال الخصم من جذوره، ألم تتفاخر جبهة الإنقاذ في بيانها بأن مصر رفعت رأسها عاليا بعد فض الاعتصامات؟، نعم ارتفع عاليا، لكن على أشلاء وأجساد وجماجم الألوف من أبنائها. الببلاوي في حديثه لفضائية أخرى عربية أنصف البرادعي بقوله " في اجتماع مجلس الدفاع الوطني جميع الحاضرين وافقوا على فض الاعتصام باستثناء البرادعي"، وأنصفه مرة أخرى عندما قال إن " البرادعي شخص محترم جداً وعنده مبادئ، وكان متسقًا مع ما يؤمن به ولم يغير آراءه في لحظة من اللحظات، وأراد إعطاء فرصة أكبر للمشاورات وعدم الفض بالقوة، وكان يضع أمامه دائما ما حدث بالجزائر، والصراع بين الإسلاميين والجيش". إذن.. هل يمكن القول إن معاليك متسقا أيضا مع نفسك ومع ماتؤمن به عندما وافقت على استخدام القوة ، أو نفذت التعليمات باستخدامها، هل الدموية هي الحل للخلافات السياسية، وهل طريق الدماء هو الذي ستظل البلاد تسير عليه خلال وجودك بالسلطة ؟!. سبحان الله، ولا قوة إلا بالله، اللهم احفظ مصر، ودماء المصريين من المواطنين والشرطة والجيش، وأعد السلام الاجتماعي، والمحبة بين أبنائها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.