صدق د. عبد الحليم قنديل، عندما قال في تصريحات صحفية نشرت يوم أمس، أن حركة "كفاية" تعاني اليوم كثيرا من غياب الراحل الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري. أمس مرت الذكرى الثانية لرحيله رحمه الله تعالى فيما بات الجميع يشعر بالفراغ الكبير الذي تركه الرجل سواء أكاديميا أو حركيا وليس حركة كفاية وحدها. قيمة المسيري الحقيقية، انه كان نموذجا نادرا لمفهوم المثقف "العضوي" الذي تكلم عنه "غرامشي" وبشكل تجاوز ما كان يقصده الأخير من أن كل طبقة والتي لُخصت في العُمّالية والرأسمالية تفرز مثقفيها الذين يدافعون عنها، إذ كان المسيري مثقفا ومفكرا للكتلة التاريخية التي أفرزها الحراك السياسي الذي بدأ في مصر منذ صيف عام 2004، فيما لم يكتف بدور "المُنظّر" المترف الذي يجيد الكلام على المنصات وخلف شاشات الفضائيات. بل من المدهش حقا، أن المسيري رحمه الله، رغم وزنه وثقله العلمي والسياسي كان من أقل الشخصيات العامة ظهورا على الفضائيات الخاصة، وذلك لأسباب تتعلق بتكوينه الإنساني وميله إلى العمل بدون صخب أو ضجيج من جهة ولتعاليه على منطق "الشللية" الذي يتحكم في معايير الظهور الإعلامي على الفضائيات، حيث اختطفت الأخيرة من قبل صحفيي عهد "أبو الليف" وأقرانه في الصحف الخاصة والممولة من أموال التطبيع والمال الطائفي القبطي المتطرف. المسيري رحمه الله كان حالة فريدة، فرغم "السرطان" الذي كان ينهش جسده الضعيف، لم يتخلف يوما عن أية احتجاجات شعبية في الشارع، كان يتصدر المظاهرات في صيف القاهرة القائظ، ويستقبل بصدره هراوات الشرطة، ويُختطف هو وزوجته من وسط المتظاهرين ثم يُلقى به في صحراء السويس عقابا له على تحديه لمؤسسات الفساد السياسي والإداري والمالي في مصر. المسيري كان واحدا من أبرز مؤسسي حزب الوسط، وكان من المعتاد والمثير للإعجاب، أن نجده في أية فعالية للحزب، يتجول وسط الحضور: يستقبل هذا ويداعب ذاك.. وعلى الرغم من أنه عَلمٌ من أعلام الفكر والثقافة والعلم في مصر، ويعرفه القاصي والداني في العالم العربي، وكانت تُضرب له أكباد الإبل كما يقول العرب لينال من شاء شرف التعرف عليه وتلقي العلم على يديه.. رغم ذلك كله كان لا يستنكف من أن يثبت على صدره ال"I.D" الذي يحمل اسمه ومنصبه الحزبي.. وكأنه شخصية غير معروفه ليمارس بعفوية نادرة ما كنا نعرفه من تواضع العلماء الذين كانوا يؤثرون الناس ببسط الوجه وحُسن الخلق. في عصر صحف وإعلام "أبو الليف" الخاص والبائس الذي نعيش فيه اليوم، يُستضاف التوافه ومن لا رصيد له إلا الخدمة في بلاط السلطة، والنفاق والتلاعب بمشاعر الناس والكذب عليهم والاتشاح بوشاح الاستقلالية أو المعارضة.. ليمارسوا على الناس أرخص أنواع "الدعارة الصحفية" فيما يأوي الأنقياء والاتقياء والمخلصون من العلماء وسدنة العلم وأساطين المعرفة في مصر، إلى "الظل" يتجرعون مرارة الإهمال والتهميش بل وتعمد "تلويث" سيرتهم العطرة .. إذا فشل "القوادون" في الاساءة إليهم.. في هذا العهد، يحاولون أن توارى تجربة المسيري الثرى مع جسده الطاهر، بتعمد تجاهله ومحاصرة أعماله والتوصية بعد طبعها على نفقة الدولة.. إذ لا يزال الرجل رغم موته يقض مضاجع الطغاة.. فما نامت أعين الجبناء. [email protected]