انعقد مجلس تأديب الطلاب لمحاكمة طالب في لجنة الامتحان وهو يشرع في الغش من ورقة سهر الليالي لإعدادها لهذا الغرض. وجه المحقق بضعة أسئلة مملة يكرر بعضها بعضا خلاصتها ما إذا كانت الورقة المضبوطة تخصه، وهل شرع في النقل منها إلى كراسة إجابته. الطالب صامت يتصبب عرقا ويكتفي بهز رأسه. ثم قرئت عليه نص المادة التي تعاقب من يغش أو من يشرع في الغش بالحرمان لمدة عامين. هذا الطالب بالفرقة الأولى بكليته، أي أنه قبل شهور كان تلميذا بالمرحلة الثانوية حيث التدريب على الغش وممارسته بلا تردد أو حياء، ولا مؤاخذة ولا استنكار. ولكن حينما أصبح طالبا جامعيا وقع في المحظور من أول محاولة لممارسة الغش. وربما دار في خلد الطالب تساؤل... منذ متى أصبح للغش عقوبة، فالغش والتزوير وغيرهما من المفردات تجري على الألسنة، والصحف زاخرة بأنباء الغش والتزوير حتى اعتادها الناس إلى درجة أنهم لم يعودوا يستهجنونها. فالتزوير أصبح منهاج حياة في مصر، والرشوة لم تعد بالشئ الذي يستحي منه،والغش خالط كل أمور حياتنا... فالأغذية مغشوشة، ومواد البناء وقطع الغيار والأدوية، والأغاني والذوق العام... وما من شئ يتعامل معه الإنسان على أرض مصر إلا وبه على الآقل مسحة من غش، والسرقة أصبحت عادة يمارسها الكبار، والكذب... هذا الطالب هو نتاج مجتمع اختلت فيه القيم، واهتزت فيه المبادئ، بل تبدلت وتغيرت إلى النقيض. هو نتاج مجتمع ساهم الإعلام في إفساده، مجتمع طارد لشبابه، قاتل لملكاته، خامد لطاقاته، مجتمع حاضن للفساد والكذب والغش والتزوير والنفاق... مجتمع لم تعد به فضيلة يتغنى بها. كيف إذن في مجتمع كهذا يحاسب طالب حسابا عسيرا لأنه حاول أن ينقل إلى كراسة إجابته فقرة أو فقرتين، بينما الذين ينقلون خيرات البلد إلى خارجها لا يمسهم سوء إلا فيما ندر. كيف يحاسب طالب شرع في غش أو تزوير شهادة حسابا قاسيا، بينما الحديث عن تزوير الانتخابات وسلب إرادة الأمة ملئ الآفاق. لا يحسبن أحد أني بصدد دعوة إلى التراخي، ولكنها دعوة إلى التقنين العادل. فالقوانين تسن لتعكس ما يسود في المجتمع من قيم ومبادئ، ولتعكس حاجاته. فإذا كان التزوير تمارسه الدولة فلا تثريب على صغار المزورين، وإذا كانت السرقة يمارسها بعض الكبار بأساليب ملتوية مبتكرة، فلا تثريب على الصغار، وإذا كان الغش يخيم على حياتنا فأي غرابة في أن يغش طالب في لجنة الامتحان. النص الجامعي الذي يقضي بالحرمان عامين لكل من يرتكب غشا أو يشرع فيه تمت صياغته منذ حوالي أربعين سنة، ولم يستخدم حتى أصبح في إعداد النسيان. كان النص على ما يتضمنه من ردع وقسوة وجيها متوائما مع قيم المجتمع، ذلك أن الحياة آنذاك كانت نظيفة، وكانت كلمات الرشوة والتزوير والغش تثير الرعب في النفوس وتبعث على الاشمئزاز والاستنكار، وكان من يمارس أيا من هذه القبائح يتوارى عن الخلق.. خجلا وحياء.. وربما ندما. ونكرر هذه ليست دعوة إلى التراخي، وإنما دعوة إلى المواءمة والعدل، وإلا فمصيرنا الهلاك.