تصدر الأحكام القضائية في الدولة المدنية ليتم تنفيذها ، هذه معلومة بديهية ،ولذلك لا يجوز لأحد خارج نطاق التقاضي مهما كانت سلطته ومهما كانت مرجعيته سواء كانت دينية أو مدنية أن ينزع من الحكم النافذ قوته التنفيذية ،وأساتذة القانون في كل العالم يُعلّمون تلاميذهم في مدرجات العلم مبادئ تعلموها من أجيال سبقتهم واستقرت عليها الأفهام الصحيحة ، ومقتضي تلك المبادئ الخالدة هو أن الحكم الصادر في الدعوى القضائية واجب التطبيق محمولا علي أسبابه طالما أنه صدر في دولة مدنية ولم يصدر في دولة الفاتيكان وكلمة محمولا على أسبابه هذه كنا نسأل أساتذتنا عنها ونحن في مدارج كليات الحقوق فيقولون لنا إن القاضي لا يصدر حكما يتكون من منطوق فقط ولكن أي حكم يجب أن تكون له أسباب وهذه الأسباب هي التي تخضع للمناقشة والجدال والتعقيب أمام المحكمة الأعلى فإذا تأيدت هذه الأسباب بمنطوقها من المحكمة الأعلى أصبح الحكم عنوانا للحقيقة .. ورحم الله أستاذنا العبقري المرحوم سليمان الطماوي الفقيه الدستوري الذي كان يضرب لنا مثلا عن وجوب تنفيذ الحكم القضائي وإلا فقد القضاء ركنه الأعلى فقال في محاضرة من محاضراته (قدم المسئولون البريطانيون تقريرا لرئيس الوزراء تشرشل بعد الحرب العالمية الثانية عن انتشار الفساد والرشوة في بريطانيا آنذاك فقال لهم: هل وصل الفساد إلى مرفق القضاء؟ أجابوه لا، فكان رده: ما زلنا بخير طالما أن القضاء بخير وطالما أن الأحكام يتم تنفيذها على الكبير والصغير ) ولتشرشل مقولة خالدة أثناء الحرب العالمية الثانية هي : نخسر الحرب ولا يقال أن بريطانيا امتنعت عن تنفيذ أحكام القضاء !!.. لهذه الدرجة تنهض أهمية تنفيذ أحكام القضاء في الدولة المدنية الحديثة هذا إذا كنا نتفق جميعا على أننا نعيش في دولة مدنية ولكن وعلى عكس تلك الأصول القانونية المعتبرة إذا ببعضنا في بر مصر في الفترة الأخيرة يتجه اتجاها يمس حجية الأحكام ويهدم نفاذها ، فعندما صدر حكم من المحكمة الإدارية العليا ضد الكنيسة الأرثوذكسية ملزما إياها أن تُصرّح للصادر له حكم تطليق بالزواج الثاني أعلن البابا شنودة أنه لن يقوم بتنفيذ حكم المحكمة الإدارية العليا لأنه على حد قوله يتلقى تعليماته من الكتاب المقدس لا من القضاء الإداري!! ولأن بعض إخواننا الأقباط وهم بصدد تأييد البابا في تصريحه هذا أثاروا نقاشا موسعا حول حق البابا في عدم تنفيذ هذا الحكم انطلاقا من فرضية أن حكم الإدارية العليا يخالف عقيدة الأقباط الأرثوذكس وأن البابا لا يمكن أن يطبق حكما يخالف شريعته .. ورغم عدم صحة هذه الفرضية إلا أنني أرد عليها بالآتي : أولا : لم يكن المعروض أمام المحكمة الإدارية العليا هو شريعة الأقباط الأرثوذكس في مسائل الطلاق والزواج ولكن الذي كان معروضا أمام المحكمة هو مراقبة مدى صحة القرار الإداري الصادر من البابا شنودة باعتباره الرئيس الديني لطائفة الأقباط الأرثوذكس عندما امتنع عن التصريح للحاصل أو الحاصلة على حكم تطليق بالزواج الثاني ، رغم أنه سبق وأن صرح لآخرين لهم نفس الظروف وحاصلين على ذات الأحكام من ذات المحاكم .. والبابا شنودة وفقا لاختصاصاته الإدارية من حقه أن يقبل أو يرفض إصدار قرار ما ولكن بشرط أن يكون هذا القرار متفقا مع القانون متجردا من الهوى ، وعندما أقام الأخ القبطي صاحب الدعوى دعواه التي يرفض البابا تنفيذ حكمها أورد أن القرار الإداري السلبي الصادر من البابا والمتضمن رفض التصريح له بالزواج الثاني شابه الهوى والفساد والانحراف الجامح بالسلطة وهي تعبيرات قانونية ذلك أنه من شروط صحة القرار أن يكون المواطنون أمام صاحب القرار سواء لا فرق بين هاني ويصا والست حرمه ومجدي وليم والست طليقته هالة صدقي .. وقد نظرت المحكمة الدعوى واطلعت على المستندات واتضح لها أن البابا سبق وأن صرح بالزواج الثاني لأفراد استصدروا أحكام طلاق لغير علة الزنا أقول لغير علة الزنا التي لا تثبت إلا بحكم قضائي وليس بقرار إكليريكي غامض ورفض التصريح للبعض الآخر دون سبب يجيز له الرفض رغم تساوي المواقف الأمر الذي يهدر شرعية قراره ، وأظن أن قصة الفنانة هالة صدقي معروفة للكافة عندما صرح لها البابا بالزواج الثاني ولم يصرح لطليقها !!. ثانيا : عندما يرفض البابا تطبيق حكم القضاء فهو يتجه بنا إلى الدولة الدينية التي يرفضها في تصريحاته عندما يتعلق الأمر بالمسلمين عامة أو بالإخوان المسلمين أو أي حركة إسلامية على وجه الخصوص علما بأن الإسلام لا يعرف مفهوم الدولة الدينية فإذا كان من حق البابا رفض تطبيق أحكام المحاكم من منظور ديني فإنه وبنفس المنطق يكون من حق شيخ الأزهر أو المفتي رفض تنفيذ أحكام المحاكم التي تفرض فوائد ربوية أو تخالف الشريعة الإسلامية .. كما أن من حق أي طائفة من طوائف الأقلية أن ترتكن لمنظورها الديني أن ترفض تطبيق أحكام المحاكم إذا ما خالفت شريعتها !! فهذه بتلك.. والبابا هنا هو الذي يكرس مفهوم الدولة الدينية ، ولا أخالني مفتئتا على القانون لو قلت أن من حق البابا أن يرفض حكما يخالف عقيدته لكن ليس من حقه أبدا أن يرفض تنفيذ هذا الحكم .. فرفض الحكم يعطي له الحق في الطعن عليه وفقا للطرق المقررة قانونا سواء بطرق الطعن العادية أو بالطعن عليه مثلا أمام الحكمة الدستورية .. فأنا مثلا وغيري من عامة المسلمين نرفض الأحكام القضائية المخالفة للشريعة الإسلامية إلا أنني لا أنا ولا شيخ الأزهر أو مفتي الديار نستطيع أو نتجاسر على رفض تنفيذ الأحكام التي نرفضها أو حتى يحدثنا هاجسنا بهذه الممانعة التنفيذية ... وأذكر من ضمن ما أذكر أن المحكمة المدنية أصدرت حكما ضد الشيخ جاد الحق رحمه الله بصفته شيخا للأزهر الشريف في الثمانينات بإلزامه أن يؤدي لأحد المقاولين مبلغا من المال محملا بالفوائد التي هي وفقا للثوابت الإسلامية ربا محرم قطعا بلا خلاف .. وقتها اتخذ شيخ الأزهر كافة الإجراءات القانونية للطعن على الحكم حتى أنه ذهب للمحكمة الدستورية طاعنا على دستورية مادة الفائدة القانونية في القانون المدني لمخالفتها ثوابت الشريعة الإسلامية .. ولكن المحكمة الدستورية قضت برفض دعوى عدم الدستورية !! وعندما تم استنفاد طرق الطعن قام شيخ الأزهر بتنفيذ الحكم الذي يرفضه والذي أرفضه والذي يرفضه المسلم المتدين ، وغاية ما فعله الشيخ هو استقدامه العديد من العلماء لكتابة مقالاتهم العلمية في هذا الشأن في مجلة منبر الإسلام .. وأقام العديد من الندوات والمحاضرات التي تقطع بربوية الفوائد القانونية التي نص عليها القانون . ووفقا لهذا لا يجوز للسلطة الدينية المسيحية تعطيل أحكام القضاء بادعاء أن( نطاق تطبيق حكم القضاء كنسيا يبتعد عن مقتضي الحكم الصادر في دعوى الإلغاء وأن الحكم تعرض لوجوب إجراء صلوات ومراسم زواج وهذا يعد مخالفا للروح الداخلية للإنسان وحرية إيمانه ) أكرر الكلام وأقول إن هذا القول يتعارض تماما مع مفهوم الدولة المدنية التي يجب أن تخضع المؤسسات المدنية والدينية فيها لأحكام القضاء حتى ولو خالفت معتقداتها الدينية . لك الحق يا نيافة البابا أن ترفض حكم المحكمة الإدارية العليا وتنتقده جهرا أو سرا .. أمام الناس أو خفية .. لكن ليس من حقك أن ترفض تنفيذه أبدا. ثالثا : سبق وأن كتبت بأن القضاء المصري لم يصدر أحكاما تخالف قانون الأقباط وشريعتهم ولم تصدر أحكامه بالتطليق من وحي خياله القضائي رغم أنه يصدر أحكاما تخالف الشريعة الإسلامية !! وإنما أصدر ما أصدره من قضاء التطليق ارتكانا إلى لائحة الأقباط التي أعدوها بأنفسهم في 9 مايو سنة 1938 حيث أعد المجلس الملي العام للأقباط لائحة خاصة بالأحوال الشخصية.. عرفت بلائحة 38، وتسمي ب (اللائحة الواجبة التطبيق دون غيرها) وقد حدث أن اختلف بعض الأقباط قضائيا في ماهية اللائحة الواجبة التطبيق عليهم في مسائل الأحوال الشخصية وعندما عرضوا الأمر على محكمة النقض أصدرت في 6 / 6 / 1973 حكما قضى بأن هذه اللائحة هي الواجبة التطبيق. يا شركاء الوطن كلنا في الوطن واحد أليس كذلك ؟ حقا مصر وطن يعيش فينا . تصويب : ورد بمقالي السابق أن المستشار محمود عبد الحميد غراب رحمه الله تعرض للضرب في بيته من أحد ضباط الشرطة وقد ورد لي تصويب من الأخ الفاضل نزار محمود عبد الحميد غراب المحامي قال فيه إن ضباط الشرطة اقتحموا بيت والده المستشار رحمه الله دون أن يحصلوا على إذن بذلك من مجلس القضاء الأعلى إلا أنه لم يحدث أن اعتدى أحدهم بالضرب على والده وكان مناط احتجاج نادي القضاة وقتها هو اقتحام الشرطة لمنزل رئيس محكمة استئناف دون مبرر قانوني وإذن من مجلس القضاء الأعلى وقد قمت بالرد عليه قائلا : ((رحم الله والدك الكريم وقد كان من قدري أن تقابلت معه عام 1980 وكان رجلا دمث الخلق واسع العلم يحمل في قلبه تواضع العلماء . والحقيقة أنني اعتمدت على ذاكرتي في شأن اقتحام بيتكم ويبدو أن صحيفة من صحف المعارضة وقتها بالغت وذكرت مسألة الاعتداء بالضرب لذلك ظل الأمر محفورا في ذاكرتي على هذا النحو إلا أنني سأقوم بالتصحيح إن شاء الله في المقالة القادمة وجزاك الله خيرا )) لذلك وجب التصويب .