وانخفض مستوى منسوب مياه النيل بشكل حاد، وبدرجة لا تكفي لزراعة جميع الأراضي المصرية، وتكرر هذا النقصان ليصيب البلاد بكارثة كبرى وجفاف شديد ومجاعة حادة، اختفت المواد الغذائية من الأسواق، وتفاقم الوضع مع اختفاء القمح كلية، فاضطربت البلاد بسبب الجوع الذي لم تر مثله من قبل، خرج الناس للشوارع.. منهم من خرج ليسرق، ومنهم من خرج هارباً، زادت أسعار السلع أكثر من مائة ضعف، اختفت الكلاب والقطط وارتفعت أسعارها لأن الناس بحثت عنها لتأكلها، واشتدت المحنة حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، كان الرجل يخطف ابن جاره فيشويه و يأكله، وقبض على رجل يقتل النساء والصبيان فيبيع لحومهم ويدفن رؤوسهم وأطرافهم، كان يموت كل يوم على الأقل ألف مصري، ثم ارتفع العدد إلى عشرة آلاف، حتى وصل العدد الإجمالي للقتلى إلى مليون وستمائة ألف نفس. هذه العبارات ليست أحداثًا من وحي الخيال، وليست بالحلم الذي يستيقظ في نهايته الكاتب، وإنما هي فترة حقيقية عاشتها مصر لمدة سبع سنوات كاملة بدءا من العام 1065م، وهي الفترة المسماة في التاريخ المصري باسم "الشدة المستنصرية"، نسبة إلى الخليفة "المستنصر بالله" الفاطمي، والتي وردت وقائعها في كتب التاريخ، وفصلها الدكتور جمال حمدان في كتاب شخصية مصر، وكانت أسوأ أيام عاشتها البلاد منذ السنوات السبع العجاف في عهد نبي الله يوسف عليه السلام. إنها النبوءات التي تعتبر أن حدوث جفاف نهر النيل ثم المجاعة أمر لا بد منه، وأنها تكررت كثيرًا على مدار تاريخ مصر، وبالتالي فما يحدث حاليا من أزمة مع دول منابع النيل هو مقدمة لتلك المجاعة القادمة، وأنا أقول بثقة: لا لن تتكرر تلك المجاعات مرة أخرى، ولدي من المبررات ما يؤكد ذلك، بالطبع لست أعني أن الدبلوماسية المصرية ستتمكن من إنجاز اتفاق جديد يضمن تدفق كميات المياه اللازمة من دول مصب النيل، فللأسف يتم التعامل مع القضية بسذاجة شديدة، ولا يبدو في الأفق خطط جادة لاستيعاب دول حوض النيل، والحرص على تنميتها كجزء من الأمن القومي الحقيقي لمصر، وإنما وقائع الجغرافيا والتاريخ هي التي تتحدث هذه المرة. المعلومة التي غابت عن الكثير كشفها الدكتور "رشدي سعيد" العالم الجيولوجي المعروف في حواره مع جريدة المصري اليوم، تتعلق بوضعنا القانوني الضعيف في الأزمة، فعندما تم توقيع اتفاقية عام 1959 قامت مصر بتقاسم كل المياه القادمة من نيل أثيوبيا الأزرق بين مصر والسودان وهو مصدر 85% من المياه بمصر، ولكن المشكلة أن الاتفاقية لم تتضمن أية حقوق لأثيوبيا التي لم تحصل على قطرة مياه من منابع النيل، في ذلك الوقت كان عدد سكان أثيوبيا أقل والحاجة إلى المياه أقل، فلم تكن المشكلة واضحة المعالم، ولكن الآن أثيوبيا في حاجة إلى المياه وتبحث عن نصيبها فيها، والمشكلة الحقيقية أن البنك الدولي يساند أثيوبيا منذ توقيع الاتفاقية، ويعتبرها غير قانونية لأنها لا تعطى حصة من المياه لبلد المنبع، كما يشكو البنك الدولي دومًا من مصر، لأنها تهدر كثيرًا من المياه ويطلب منها إدارة مواردها بكفاءة أكبر، بحيث يمكنها الاستغناء عن جزء من الماء ليصب في صالح أثيوبيا. الوجه الآخر للمشكلة- أو بمعنى أدق.. لحل المشكلة- يتمثل في استغلال المياه الجوفية والتي لا تمثل حاليًا أكثر من 8% من الموارد المائية لمصر، وقد وصلتني العديد من الأبحاث والدراسات من القارئ العزيز الدكتور "مؤمن عبد الخالق"، والتي لفت من خلالها انتباهي أنه لم يتم حتى الآن تقييم دقيق لكميات المياه الجوفية في مصر، ولاسيما في الصحراء الغربية التي يعتبرها البعض منطقة تسبح على أنهار المياه العذبة، وبالرغم من اختلاف العلماء في تقدير كمية المياه الجوفية؛ إلا أن أقل الأرقام تفاؤلاً تصل بالكميات التي يمكن سحبها سنويًا من الصحراء الغربية ب30 مليار متر مكعب لمدة 100 عام، بالإضافة إلى كميات أخرى في سيناء لم تقيم بشكل دقيق حتى الآن، كما ثبت أيضًا بالتحليل المعملي أن نسبة الملوحة بها تتراوح ما بين 100 إلى 450 جزءاً في المليون وهو ما يعادل ملوحة مياه النيل تقريباً، وبذلك فهي صالحة للشرب والزراعة وكل الاستخدامات، وإذا ما اعتمدنا على هذا الخزان الجوفي الهائل من المياه، مع البدء في تنفيذ مشروع ممر التنمية الذي أعد الأبحاث الخاصة به الدكتور "فاروق الباز" والذي يهدف إلى إقامة ممر يتوازى مع وادي النيل ويرتبط معه بأفرع فيما يسمى بسلم التنمية، بما يفتح المجال لبناء مدن وقرى جديدة في مراكز التكدس السكاني المقترحة، بذلك يمكن وقف التعدي على الأراضي الزراعية كليًا، حيث ستكون في موازاة كل مدينة كبرى مدينة أخرى قريبة ومتصلة بها، كما أنه سيفتح المجال للاكتفاء الذاتي من الغذاء. هذا بالإضافة إلى حل آخر على المدى البعيد يتمثل في تحلية مياه البحر الأحمر والبحر المتوسط باستخدام الطاقة النووية، حيث تؤكد التجارب التي بدأتها دول مثل الأرجنتين والبرازيل منذ عشرين عامًا نجاح مثل تلك المحطات، التي تعتمد على الطاقة النووية لتوليد الكهرباء وتحلية الماء، حيث تكفى المحطة الواحدة لتجمع سكاني يزيد عن المليون نسمة. مرة أخرى أعود وأتساءل: هل نحن عاطفيون وموسميون في تعاملنا مع القضية الهامة والمصيرية؟ فبعد الاهتمام الإعلامي والشعبي غير المسبوق بقضية مياه النيل، عادت الأضواء لتخفت مرة أخرى عن القضية، لتحل محلها قضايا ومشكلات أخرى أقل أهمية ولكنها أكثر سخونة، لقد اخترت أن أكتب في قضية المياه بعد هدوء العاصفة التي نتجت عن توقيع دول المنبع على الاتفاقية الجديدة لحوض النيل، صدقوني كنت أعلم أن تلك العاصفة ستهدأ وسنبدأ في تناسي هذه القضية المصيرية، دعونا الآن نفكر بهدوء بعيدًا عن العصبية والانفعالات اللحظية، من المهم أن يبقى الرأي العام على وعي تجاه قضية الأمن القومي الأولى لنا، من المهم أن نتفاعل مع القضية حتى نضمن حياتنا وحياة الأجيال القادمة من بعدنا. [email protected]