(ألف عام من المجد ، ما من جامعة لعبت دورا كدوره ، وهو ليس مسجدا كأي مسجد آخر ، كان الأزهر مدرسة ومنارة وموئلا للمظلومين وقيادة لمعارك الوطن ، وفي ظل الأيام السوداء عندما كان المحتلون الغرباء من الممالك أو الفرنسيين يدوسون كرامة مصر وترابها بسنابك خيولهم ، عندما كان المصري ممتهنا ومطحونا ، كان الطغاة يخشون من شيء واحد ، الأزهر ، فعندما تسوء الأحوال ، ويطفح الكيل لا يجد المصريون موئلا سوى الأزهر .. وما من مرة قاد فيها مشايخ الأزهر معركة من معارك الوطن إلا وانتصروا ، ولم تزل مصر بحاجة إلى تلك المآذن كي تضئ من جديد ، والذين ساروا في موكب المشايخ حتى بيت الوالي التركي فضربوه وجرسوه وأركبوه حمارا بالمقلوب لأنه خالف شرع الله ، نفس هؤلاء الناس البسطاء والحريم اللاتي استجرن بالمشايخ عشرات المرات من ظلم المماليك فأجاروهن ، هؤلاء الناس يتطلعون إلى نفس المآذن العنيدة ، ينتظرون لحظة الأذان) . (28) هذه العبارات النارية الثورية الهادرة ، ليست من كلام الشيخ عمر عبد الرحمن ، أمير الجهاد وهو يحرض أتباعه ضد الحكام الذين خالفوا شرع الله ، ولا هي من كلمات خالد الاسلامبولي ، وهو يبرر ضربه للحكام الذين خالفوا شرع الله ، ولكنها يا للمفارقة !! هي نص عبارات المفكر الماركسي الكبير الدكتور رفعت السعيد !! إننا أمام حالة عشق للدور السياسي للأزهر ، ودفاعه عن المظلومين ، وضربه للحكام الذين يخالفون شرع الله ، وتصديه لقضايا الوطن الكبرى والصغرى ، سواء ولكن المثير للدهشة أن هذا الكلام هو كلام (مفكر ماركسي) يدعو في نفس اللحظة وبكل قوة وعنف ، لعدم تسييس الدين ، ويحذر من تديين السياسية ؟! بل إن الدكتور رفعت السعيد صاحب الخطاب التحريضي للمشايخ والعلماء للدفاع عن شرع الله والمظلومين ، هو نفسه الذي هاجم فتوى دينية صدرت بخصوص زيارة القدس والصلح مع العدو الصهيوني وعلق قائلا : (هذا هو الخطر الداهم من تسييس الدين أو أسلمة السياسية) (29) . ثم يضيف قائلا : (فلم لا يكون الدين للديان ، ولم لا يكون كما هو فعلا ، علاقة بين العبد وربه) . (30) والحقيقة أنه من الصعب على مثلي التصديق بأن قائل هذا الكلام هو نفسه قائل الجملة التحريضية السابقة ، إذ لا يمكن صدور مثل هذا التناقض عن شخص واحدة عاقل ، ويدرك مواطن كلامه ، وخاصة من مثل الدكتور (رفعت السعيد) حيث يفترض فيه أن يزن كلامه جيدا قبل أن يخرجه لأنه محسوب عليه ، ومعدود عليه !! ولكن يبدو أن مرد هذا الأمر هو الانتهازية السياسية ، التي تجعله إذا احتاج إلى الأزهر تغزل فيه وفي نضاله ، خاصة في أيام الانتخابات ، وأما إذا يئس منه ، صب عليه جام غضبه ، ودعا غلى عودة الدين بين العبد وربه ، فلا يخرج إلى الشارع ولا النساء ولا المظلومين ، ولا شأن له بالحاكم ولا بشرع الله !!! والانتهازية مرض أخلاق بشع ، ولكنها المخرج الأهون للدكتور رفعت من هذا التناقض ، وذلك لأن الطعن في الأخلاق أهون من الطعن في أشياء أخرى . والحقيقة أنني أعدت نشر كلام الدكتور رفعت السعيد عن (ضرب الولاة وتجريسهم لمخالفتهم شرع الله مضطرا، لأن أخشى ما أخشاه أن يأتي أحد من جماعات العنف الديني ، فيحتج بكلام الدكتور على أنه (صحيح الدين) ثم ينطلق إلى ارتكاب حماقات وخيمة العواقب . على أن الدكتور (رفعت السعيد) لا يترك الناس وشأنهم إذا قعدوا في بيوتهم يتدينون ، ويتركون الساسة والسياسية ، وإنما هو يطاردهم بالهجوم على (الدين ذاته) أو علاقتهم بالله ، ولذلك تجده يهزأ من الآداب الدينية ، مثل أن يعطس الشخص فيقول (الحمد لله) ، ويرى ذلك جهلا وتخلفا . (31) ويستفزه أن تطبع دار نشر كتابا للأطفال فيه صورة رجل ملتح أو امرأة محجبة ، فالقضية عند المفكر الماركسي أبعد من مجرد إبعاد الدين عن السياسية ، إنها احتقار لالتزام الجماهير بآداب الدين ذاته ، أو تمسكهم بشعائره الأخلاقية أو السلوكية .. ........ ونفس هذا الاضطراب في الموقف من المؤسسات الدينية وظاهرة (الانتهازية) السياسية حدثت مع (الأقباط) و (الكنيسة) و (البابا) ، ولقد كان مثيرا للدهشة أن يسكت الدكتور (رفعت السعيد) ويصمت صمت الحملان على حملة التجريح التي تعرض لها البابا شنودة على صفحات الأهالي ، إلى الحد الذي تنشر فيه الجريدة مانشيتا بالبنط العريض يقول : (البابا شنودة رفض التصريح للأقباط بزيارة القدس ثم يشارك في استقبال بيجين في المطار) . (32) والدكتور رفعت الذي لا يترك شاردة ولا واردة مما يمس الأقباط إلا ويطاردها ويهاجم بضراوة من يهاجم الأقباط (والبابا) ، لا أدري لماذا تجاهل هذا التجريح غير المقبول لواحد من أكثر المواقف شرفا للكنيسة المصرية ؟! على أن الدكتور رفعت السعيد تحول في الآونة الأخيرة إلى تقمص دور محامي الأقباط في المعارضة المصرية ، وهو يغالي في هذه المسألة إلى حد (التهور) ، وتعريض أمن البلاد ووحدة الأمة للخطر والفتنة ، فهو لا يترك مناسبة إلا ويحرض فيها (الأقباط) على بناء المزيد من الكنائس أو المطالبة بذلك ، ويصف حرمانهم من ذلك بأنه اضطهاد وقمع ، رغم علمه بالحساسية البالغة لهذا التصرف على صعيد المواطن العادي ، وهو ما جربه الوطن وكانت عواقبه وخيمة لولا ستر الله ورحمته بمصر . وأخشى ما أخشاه أن يكون شعور (الإحباط الماركسي) الذي وصفه لنا الدكتور في كتابه (ماركسية المستقبل) قد تحول إلى رغبة عارمة في الهدم والتخريب والتدمير على طريقة (علي وعلى أعدائي) أو كما عبر الشاعر القديم : إذا مت ظمآن فلا نزل القطر وهذا بعد نفسي بالغ الخطورة ، ينبغي أن يحذر منه المسلمون والأقباط جميعا ، وهم يقرءون أدبيات الماركسية الجديدة ، وخاصة منها كتابات الدكتور رفعت السعيد ، إذ الإحباط له انعكاسات خطرة سياسيا واجتماعيا . والمثير للدهشة أن الدكتور رفعت السعيد لا يتهم الجماعات الإسلامية وحدها باضطهاد الأقباط ، بل هو يتهم الحكومة المصرية بالتواطؤ مع (المتطرفين) في اضطهاد الأقباط ، وهذا كلام خطير ، ويستعمله المتطرفون الأقباط في أمريكا وكندا لتحريك الحملات المعادية لمصر وشعبها ونظامها السياسي في الخارج .. فبعد أن تحدث الدكتور (رفعت) عن ممارسات الاضطهاد الحكومية ضد الأقباط ، يقول : (ويمكن القول أن هذا الممارسات تتصاعد وتصل أحيانا إلى حدود ما لا يطاق) . (33) وأرجو أن يلاحظ القارئ لغة الشحن وإيماءات التحريض على الثورة والعنف والغضب ، فالأقباط مضطهدون ، والاضطهاد وصل إلى درجاته القصوى ، فأصبح لا يطاق ، أي أن (الانفجار) أصبح على الأبواب . بل إن الدكتور (رفعت السعيد) ينسى نفسه في غمرة التحريض على الفتنة ، فيكتب كلاما في غاية الخطورة و (الرعب) ويمثل جريمة فكرية مؤسفة في حق وحدة الوطن وسلامته ، عندما يلمح إلى (احتمالية الثورة القبطية) ثم يمنحها الشرعية الكاملة ، لو قامت ، فيما يشبه التحريض السافر والمشين على الفتنة الطائفية في مصر . انظر وتأمل بدقة كلماته إذ يقول معقبا على ما وصفه باضطهاد الحكومة والجماعات للأقباط : (الكنيسة هي وحدها وليس أحد غيرها القادرة على حماية الوطن من غضب قبطي ربما كان مفترضا ومشروعا) !!! (34) تأمل آخر الجملة (مفترضا ومشروعا) ، هذا لعب بالنار يا دكتور ، ولا توجد شرعية لأي ثورة طائفية في مصر ، ولا يمكن أن يتحدث وطني شريف وعاقل عن (شرعية الثورة الطائفية) ، ولا بد أن تتوقف الأقلام العابثة فورا عن إشعال لهيب الفتنة والتحريض على العنف ، وإيغار الصدور وتحريك بواعث الحق والمرارة في النفوس ، وإن أي ثمن سياسي لا يمكن أن يبرر مثل هذا التهور والطيش والتلاعب بوحدة الوطن . والحقيقة أن شعور الدكتور (رفعت السعيد) بانفضاض الجماهير المسلمة والمؤسسات الإسلامية عن تياره الفكري والسياسي ، جعله يرتمي في أحضان الجهة الأخرى ، الجماهير القبطية والمؤسسة الدينية (الكنيسة) و(البابا) ، وهو لا يخفي هذه النزعة بل يعلنها صراحة ، فبعد فاصل من الغزل السياسي للكنيسة ودورها السياسي ، تحدث عن الموقف من التطبيع مع الصهاينة ، وامتلك الجرأة ولا أقول غير ذلك تأدبا على الزعم بأن الكنيسة واليسار وحدهما يقفان ضد التطبيع ، ثم يعلق على ذلك قائلا : (هو البابا واليسار ، إنها المصادفة الغريبة مرة أخرى) . (35) أريتم نهاية اللعبة ، لعبة النار والفتنة ، إنها البحث عن التحالف مع الكنسية ! وقبل أن أغادر هذه النقطة أجدني مضطرا لإثبات سؤال إلى اليسار المصري كله : هل صحيح أن اليسار والبابا وحدهما ضد التطبيع ، وبقية قوى الأمة مع التطبيع ؟! فقط هنا أثبت السؤال ، والواقع أنني لا أنتظر الإجابة ! ومرة أخرى ينسى الدكتور (رفعت السعيد) تحذيراته من (تسييس الدين) ودعوته الملحة إلى حصره في العلاقة بين العبد وربه ، حيث يعود للحديث عن الكنيسة وأن دورها السياسي أصيل وفاعل منذ وجدت السياسة ، ويقول : (إذا تحدثنا عن السياسة كفن محاولة العمل من أجل الوطن ، فالكنيسة موجودة في إطارها منذ وجدت السياسة بمعناها الحديث ، بل لعلها لعبت فيها دورا يفوق ما هو مفترض) . (36) وأعود لأستعيد عبارات الدكتور رفعت السعيد ذاتها (هذا هو الخطر الداهم من تسييس الدين) ، وأيضا (لم لا يكون الدين للديان ، ولم لا يكون كما هو فعلا ، علاقة بين العبد وربه ؟!) . ثم أعود لأؤكد ، من الصعب جدا تخيل صدور كل هذه التناقضات الفكرية عن شخص واحد عاقل ، أو هكذا أعتقد والله أعلم . هوامش: (28) رفعت السعيد ، يوميات الأهالي ، 13 4 1983 (29) ضد التأسلم ، ص 63 . (30) نفسه ، ص 64 . (31) راجع (ضد التأسلم) ، ص 220 . (32) راجع جريدة الأهالي ، عدد 18 3 1987 ، تحقيق ماجد عطية . (33) ضد التأسلم ، ص 44 . (34) نفسه ، ص 43 . (35) ضد التأسلم ، ص 43 . (36) نفسه ، ص 38 .