كان السقوط مدويا ، وأسرع مما يتصور الإنسان ، حتى ألد أعداء الماركسية ، وكان الذهول هو رد فعل الحركات الماركسية في مختلف أنحاء العالم ، وهي ترى الجماهير ترجم كافة الرموز (المقدسة) في الاتحاد السوفيتي وألمانياالشرقية وغيرهما . وكانت (المحنة) كما يعبر عنها الدكتور رفعت السعيد هي الوصف الأكثر مناسبة لهذا الانهيار ، ولكنها كانت محنة مريرة ، وأمرّ منها أن يعيد (المناضلون) نظرتهم إلى سنوات مضت من زهرة شبابهم فيرونها سرابا ووهما وفضاء ، وكانت المرارة علقما في الحلوق ، أن يكون آخر كتاب ألفه المفكر الماركسي الكبير الدكتور (فؤاد موسى) هو (الرأسمالية تجدد نفسها) !! وأصبحت العبارة المقدسة لكارل ماركس (الرأسمالية تحفر قبرها بيدها) مجرد كلام فارغ يدعو إلى السخرية والإشفاق ، كما يقول الدكتور رفعت السعيد . (1) وبنفس الازدراء يعلق المفكر الماركسي المحبط (رفعت السعيد) على كتاب (لينين) الذي حمل عنوان (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) ، ويصفه بأنه ببساطة شديدة خطأ محض . (2) إذن لقد انهار كل شيء ، وأصبحت المرارة والإحباط هما الهواء الذي يستنشقه الماركسيون في مصر ، وفي تعبير بليغ عن هذه المحنة يقول مُنظر الماركسية المصرية الجديدة ، الدكتور رفعت السعيد : (الحماس والإلهام تلاشيا ، ليحل محلهما تساؤلات بلا إجابة ، وإحباط بلا حدود) . (3) ........ في محاولة منه لإنقاذ الحركة الماركسية في مصر من وهدة الإحباط والتفتت والتلاشي ، أصدر الدكتور رفعت السعيد كتابا بالغ الأهمية ، وقد وزع الكتاب على نطاق ضيق ، نظرا لحساسية ما ورد فيه والخطورة البالغة للحقائق التي يعلنها المؤلف لرفاقه في لحظات صدق مع النفس ومع الموقف الأليم . وهي حقائق وصلت إلى حد الاعتراف الكامل بتلقي التمويل والرشى والمنح والهبات من الأجهزة المرتبطة بالمخابرات السوفيتية ، رغم المعرفة الكاملة بأنها أموال الفساد وسرقة عرق الشعب ومحاولة لتلويث (المناضلين) واحتوائهم وتطويعهم !! ويحار المرء كيف يبدأ القراءة ومن أين ؟! ، فالكتاب كله عبارة عن أجواء كئيبة من الظلام والفساد والإرهاب والقمع وتدمير العقل وشله ، في الثقافة والفنون ، وفي السياسية وبنيانها ومؤسساتها ، وفي الحزب والتزوير الفاضح لانتخاباته . إن الدكتور رفعت السعيد يلخص لنا تجربة الدولة الماركسية بقوله : (يتبقى أن الدولة هي أداة قمع لصالح طبقة ضد خصومها ، ولقد طبق هذا الشق بكفاءة أو بالدقة ببشاعة) . (4) وبعد استعراض لكيفية ممارسة الماركسية للإرهاب ، وقمع الشعوب دون أدنى خوف من حساب شعبي ، وذلك حسب قوله : (لأن النخبة كانت تضمن أن الاتحاد السوفيتي سيتولى قمع الانتفاضات) . (5) بعد هذا التقرير الدامغ يضيف أن (الأيديولوجية الماركسية تحولت لدى الدولة الماركسية إلى كهنوت ليس مسموحًا لأحد من الرعية اقتحام معبده المقدس ، وغاب العقل والإبداع وساد الجمود والخوف ، والديكتاتورية والفساد) . (6) وليلاحظ القارئ قسوة الألفاظ والمصطلحات مع حجم البؤس ، ويضيف بعبارة قاطعة كحد السيف : (وعندما يصبح حزب ما بقوة الدستور وقوة القانون فوق الجميع ، فإنه لا يكون بحاجة إلى جماهير ، ولا يكون بحاجة إلى كسبها في صفه ، لأنه لا يكون بحاجة إلى الاحتكام إليها) . (7) ويضيف مفكرنا الماركسي الكبير أن الفكر تحول إلى (ثمرة محرمة من يتناولها يتعين عليه أن يطرد من الجنة) . (8) وعند كلمة (الجنة) نتوقف ، والحقيقة أن هذا الذي يكتبه (رفعت السعيد) يمثل ما يشبه الاعتذار المرير عن ممارساته هو نفسه للترويج لهذه (الجنة) ، وحتى نعرف حجم المأساة ، فإننا نذكر بأن الدكتور رفعت صاحب هذا الكلام هو نفسه الذي كتب قبل خمس سنوات فقط من هذا الاعتراف ، يصف الدولة الماركسية بأنها (جنة) الأرض ، بل هي أيضا : القمر المنير في السماء ؟! فقد كتب يتحدث عن دولة الماركسية في اليمن الجنوب يقول : (القمر العربي ، النجم الاشتراكي المتألق في السماء العربية ، الصاعد إلى سماءنا على سلم العرق والدم والبناء .. إليهم أقول : عدم ليست جنتكم وحدكم ، بل هي جنة لنا جميعا نحن الاشتراكيين) . (9) وكانت هذه الجنة ، هي التي شهدت هذا الإظلام الفكري والقمع السياسي البشع واحتكار السلطة وممارسة الكهنوت العقائدي .. إلى آخر ما حكاه رفعت السعيد نفسه ؟! كما أنها الجنة التي شهدت ذبح خمسة عشر ألف يمني في ليلة واحدة ! ....... على أن خطر وقائع (النقد الذاتي) التي وقف عليها الكتاب ، هي ما يتعلق بالفساد ، فساد الذمم وفساد النفوس ، لأن هذا الفساد كما كشف المؤلف قد وصل إلى ذمم الماركسيين في بلادنا . وبداية يقرر الدكتور رفعت السعيد كيف ظهر الفساد في الحكومة السوفيتية فيقول : (سادت سياسية منح الامتيازات للصفوة الحاكمة ، وتزايدت دونما خوف من أي رقابة ، وتحولت الامتيازات إلى فساد ، واستشرى الفساد ليصبح كارثة) . ويضيف في مرارة بالغة : (الحكام الذين كانوا يتظاهرون بالتعفف إلى حد التشبه بالمسيحيين الأول ، بينما كانوا يعيشون عيشة الأباطرة والقياصرة) . (10) ولكن الأكثر خطورة في هذا السياق ، هو حديثه أو اعترافه بأن (القادة السوفيت كما منحوا أنفسهم ميزات احتكروها بالفساد دون شعوبهم ، فلقد وزعوا بعض هذه المنح والميزات على قيادات الأحزاب الشيوعية الأخرى في صورة : منح علاجية وفرص للراحة والاستجمام ، ومنح دراسية ...) . (11) ويبرر الدكتور رفعت السعيد هذه الرشى الملطخة بعار الفساد ، بأنها كانت تهدف إلى (التطويع والترغيب والاحتواء) ، (12) وأضاف أن المنح الدراسية (تحولت لدى بعض الأحزاب إلى تجارة مربحة ، ولدى البعض الآخر سبيلا لمنح فرص لطلاب فاشلين دراسيا لمجرد أن آباءهم أو أقاربهم أعضاء في الحزب) . (13) يا إلهي ، كل هذه الموبقات ، وكل هذه العمالة ، وكل هذه الخسة ، وكل هذا العار ؟! إن قيمة هذه الحقائق المذهلة تأتي من كونها صادرة عن قيادة ماركسية ، كانت لها صلاتها الحميمة وإطلاعها المباشر على هذه المخازي ، بل إن الدكتور رفعت السعيد ، وإن تحرج أن يذكر نفسه صريحا في هذا السياق ، لاعتبارات مفهومة ، إلا أنه كان حريصا على تأكيد صلته المباشرة بهذه المأساة ، حيث يقدم لكلامه بقوله : (وفق ما نعرف) (14) ، وهي عبارة واضحة ، وتفي بالغرض وزيادة . كما أن الدكتور رفعت يتحدث بتفصيل شديد عن رجال المخابرات الذين يعملون في (قسم العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي) وهي الجهة التي كانت تمنح هذه الرشى والهبات والنجاسات . بل إن الدكتور رفعت يصف الموظفين وصفا دقيقا لا يعرفه إلا من تعامل معهم وجها لوجه ويدا ليد ، فيقول : (تولى أغلب المواقع فيها شبان صغار يتحولون سريعا إلى قياصرة صغار ، يبادرونك بالحديث المترفع وكأنهم يعرفون بلدك أفضل منك مائة ألف مرة ...) (15) ، تأمل دقة الوصف حتى لأسلوب المعاملة !! والواقع أن هذا الذي ذكره الدكتور رفعت السعيد ، قامت بنشره بعض الصحف من خلال تقارير المخابرات السوفيتية التي تم تسريبها ، وقد سببت حرجا شديدا للدكتور السعيد شخصيا وللماركسية المصرية ، ولكن يبدو أن منهج المصارحة والنقد الذاتي هو الذي غلب في النهاية ، بعد طول عناد وإنكار ومكابرة . بل إن الدكتور رفعت حرص في كتابه هذا على دعوة رفاقه إلى التخلي عن العناد والمكابرة والاعتراف بالحقائق مهما تكن مرة . والحقيقة إنني أناشد الدكتور رفعت أن يكمل هذه المصارحة ، بإعلان أسماء الطلبة الفاشلين الذين حازوا شهادات الفساد ، وخاصة أن كثيرين من هؤلاء الفاشلين عادوا يحملون درجات دكتوراه ، ويدرسون للطلاب في الجامعات . بل إني أطالب الدكتور رفعت نفسه بأن يتنزه عن الشهادة التي منحها له الرفاق في ألمانياالشرقية ، ويقوم بحرقها في ميدان عام ، إعلانا للبراءة من هذا الخزي والعار ، وتأكيدا لمصداقية الاعترافات . هوامش: (1) رفعت السعيد (ماركسية المستقبل) ص 13 ، ط : 1991 بدون ناشر . (2) المصدر نفسه ، ص 14 . (3) ماركسية المستقبل ، ص 97 . (4) نفسه ، ص 36 . (5) ماركسية المستقبل ، ص 17 . (6) نفسه ، ص 53 ، 54 . (7) نفسه ، ص 55 . (8) نفسه ، ص 73 . (9) رفعت السعيد ، يوميات الأهالي ، بتاريخ 10 7 1985 (10) ماركسية المستقبل ، ص 18 . (11) نفسه ، ص 75 . (12) نفسه ، ص 75 . (13) نفسه ، ص 76 . (14) ماركسية المستقبل ، ص 76 . (15) نفسه ، ص 76 .