على أن الدكتور رفعت السعيد يؤكد في كتابه هذا على أن الماركسية ستظل رايته وراية كل المناضلين من أجل الحرية والتقدم والغد الأفضل ، ويعلن بشاعرية رائعة إيمانه المطلق بالماركسية وبحقائقها التي وصفها بالعلمية ، وبكل شيء في النظرية الماركسية ، بل إنّه يحذر من التخلي عن أي جزء من الماركسية ، لأنها (بناء متكامل وأجزاء متعاضدة يفضي بعضها إلى بعض ، وأن خطأ التجربة لا يقدح في سلامة النظرية ويقينيتها) . يقول الدكتور رفعت : (إن النظرية هي شيء يقيني ، لأنها مقولات مستندة إلى قوانين عامة تمت البرهنة على صحتها) . ويضيف : (ستبقى النظرية الماركسية بقوانينها العامة هي طوق النجاة) . (16) بل إن الدكتور رفعت ربما بتأثير المحنة والمرارة يتحدث بتطرف شديد عن الماركسية ، وضرورة الاستمساك بها بحذافيرها ، يقول : (فالماركسية في اعتقادنا نظرية متكاملة الأركان ، وهي تستند وتلتقي عند محاور يكمل بعضها بعضا ، ويفضي بعضها إلى بعض ، وانتزاع محور من هذه المحاور يؤدي إلى اختفاء الرؤية المتكاملة ، أي إلى انتفاء الطابع العلمي للفكرة ، ومن ثم ؛ تصبح هذه الماركسية في واقع الأمر لا ماركسية) . (17) إن عباراته متشنجة للغاية ، وتعبر عن إيمان مطلق وشامل وعميق بالماركسية كاملة ، وبعد أن يصف الماركسية بأنها منهج لتفسير وفهم العالم والكون والطبيعة والتاريخ والفكر الإنساني وتطوره ، يعود ليؤكد مقولاته الإيمانية القاطعة والحادة يقول : (فالعلم الماركسي لا يعرف الاجتزاء ولا الانتقالية ، وإذا كانت نصف إجابة في بعض العلوم تعطي صاحبها نصف الدرجة النهائية ، فنصف الإجابة في العلم الماركسي تعطي صاحبها صفرا ، لأنها تعبير وبإيجاز شديد غير ماركسي) . (18) وهكذا ، فالماركسية علم مطلق الصدق ، وحقائق ثبتت صحتها ، والإيمان بها كل لا يتجزأ ، كما أن الماركسية الشاملة الكاملة هي عند رفعت السعيد طوق النجاة وطريق المستقبل . والحقيقة أن كل هذه المعاني الإيمانية التي يعلنها الدكتور رفعت السعيد (المفكر الماركسي) بحسم وقوة ، تجعلنا في حالة اندهاش كامل عندما نراه ، في حالة (الدروشة الدينية) التي يقدم نفسه بها إلى الناس ، بوصفه مفكرا إسلاميا مستنيرا ، وأنه يتحدث عن صحيح الدين الإسلامي ، ويوزع اتهاماته على علماء الإسلام ومفكريه شرقا وغربا ، واصفا إياهم بأنهم (خارجون على صحيح الدين الإسلامي) و (لا يفهمون حقائق صحيح الدين) ، وغير ذلك من عباراته الشهيرة التي يعلنها كثيرا في الآونة الأخيرة ، بل ويقدم اجتهادات دينية مؤسسة على نصوص القرآن والسنة تؤسس لصحيح الدين عنده . وكذلك مداهنته الغريبة للرأي العام بحديثه عن (الدين الذي هو التعاليم السماوية مطلقة الصحة) (19) ، وحديثه عن (الشريعة كلية الصحة) (20) ، وتأسيسه على أسباب النزول ، والوحي الإلهي ، و(رأي السماء) ، ونحو ذلك من أعاجيب وتناقضات لا يحتملها منطق ولا عقل ، لا في الماركسية ولا في الإسلام ، إذ كيف تؤمن ببطلان حقيقة وجود الله ، وتتحدث عن ذلك بوصفه علما يقينيا ثبتت صحته ، ثم تتحدث عن نفس الوقت عن الوحي الإلهي والنبي الذي يأتيه الملائكة بخبر السماء ؟! هل هذا معقول ؟! إن الدكتور رفعت قال ما نصه : (إن النظرية الماركسية هي شيء يقيني لأنها مقولات مستندة إلى قوانين عامة تمت البرهنة على صحتها) . (21) والدكتور رفعت يعرف قبلي أن أهم هذه القوانين وأعلاها هو القانون الذي نصه ، وفق تعبير المعجم الفلسفي للمفكر الماركسي ، مراد وهبة : (إن المادة مستكفية بنفسها مستغنية عن خالق يوجدها) ، فكيف يستقيم إيمانك المطلق والحاد والنهائي بهذه النظرية مع إيمانك بأن الله هو الخالق البارئ الموجد للمادة من العدم ؟! وأشير هنا إلى أنني لا أنظر لموقف الدكتور من منظور ديني ، فهذا موكول إلى ضميره ولا أملك الاطلاع عليه ، وإنما أنا أتحدث من زاوية المنطق والعقل ، ومن زاوية الأخلاق كذلك ، إذ كيف تؤمن بأن الله حق والوحي حق والملائكة والنبيين واليوم الآخر .. إلى آخره . في نفس الوقت الذي تؤمن فيه بالأصل الماركسي الأصيل والركن الركين (المادية الجدلية) وناتجه الحتمي وفق ما سجلته الموسوعة الفلسفية الماركسية السوفيتية (إن أي دفاع أو تبرير لفكرة الله مهما كان جيدا ، ومهما حسنت نواياه هو تبرير للرجعية ، وحجر الزاوية في المادية الجدلية هو القول بأن العالم مادي ، ولا شيء في العالم بجانب المادة وقوانين حركتها وتغيرها ، فهو هذا القول عدو صارم غير متصالح لكل مفاهيم الماهيات التي تتجاوز الطبيعة ، بصرف النظر عن الأردية التي يضعها على الدين ...) . كيف تؤمن بذلك إيمانا جازما وتسميه (نظرية يقينية وقوانين ثبتت صحتها ولا بد من الإيمان بها إيمانا كاملا وتاما غير منقوص ، وفي نفس الوقت تتحدث عن الإيمان بالله والشريعة السماوية مطلقة الصحة ، ووجوب الإيمان بها إيمانا يقينيا .. إلى آخره ، هذا أمر لا يحتمله العقل ، أن تؤمن بأن الله موجود وغير موجود في آن واحد ؟!! والواقع أن رفضنا لهذا التناقض الغريب من الجانب الأخلاقي ، يعود أساسًا إلى أن الدكتور رفعت السعيد نفسه ، هو الذي وصف محاولات التلاعب هذه من جانب بعض الماركسيين وسترهم حقائق الماركسية ، ومحاولة تزيينها أمام الجمهور ، وصفها بوصف سيئ للغاية ، فهو يقول : (ومن هنا فإننا نحذر من أن يتصور البعض أن الدعوة إلى تجديد الماركسية تكون بتقليم أظافرها أو تقديمها بمكياج يخفى منها بعض التقاطيع التي قد لا تعجب هذه القوى أو تلك ، أو التنكر لبعض منها بدعوى استنقاذ الجزء الآخر ، كل ذلك غير مجدي) . (22) وقد وصف الدكتور رفعت هذا الصنيع بأنه (استرب تيز) فكري ، (الاسترب تيز هو نوع من الرقص الخليع تقوم فيه الراقصة في علب الليل بخلع ملابسها قطعة قطعة أمام الجمهور حتى تتعرى تماما في ظل حركات إباحية مثيرة ، جذبا لهياج الجمهور وشهواته) . فلماذا يعود الدكتور رفعت ليمارس (الاسترب تيز) الفكري هو نفسه ، رغم أنه باعترافه انحراف فكري يمارسه الكاتب ، يشبه الانحراف الأخلاقي الذي تمارسه الراقصة في الحانات ؟! وإذا كنت تؤمن هذا الإيمان المطلق بالماركسية وقوانينها ، كما كتبت بنفسك لرفاقك ، فلماذا تخفي ذلك أمام الجمهور في الندوات وعلى صفحات الصحف ، وتقدم نفسك في صورة الدرويش المتدين ، والمؤمن بصحيح الدين والموحد والمصدق بالوحي الذي نزلت به الملائكة من السماء على رجل من قبيلة قريش يدعى محمد بن عبد الله ؟! لماذا تتجرد من ثيابك الماركسية قطعة قطعة ثم تعود إلى رفاقك بعد ذلك لتؤكد لهم طهرك من هذه الخزعبلات ، وإيمانك المطلق بالماركسية والمادية الجدلية ، وقوانينها العلمية ، إنها مأساة أخلاقية لا يبررها أبدا الشعور بالمحنة والمرارة ، والإحساس بالضعف أمام تصاعد التيار الإسلامي واجتذابه للجماهير ، ونفاذه إلى جذر المجتمع ونجاحاته العديدة . ومرة أخرى ، فالأمر عندي لا يتعلق بموقفك الديني ، فهذا شأنك ، ولكن الأمر يتعلق بخداع الجماهير بصورة لا أخلاقية ، وبالأسلوب الذي وصفته أنت نفسك بأنه نوع من (العهر الفكري) عندما يمارسه الكاتب . إنني أربأ بك من أن تبقى في هذا (الموقف) ، وإن الأخلاق والمنطق يطالبانك بأن تعلن ماركسيتك أمام الجماهير بلا خوف أو خداع ولا تزييف ، وأن تخرج من عمامة صحيح الدين هذه التي لا تناسب مفكرا ماركسيا مرموقا في حجمك ووضعك !! نعم إن الدكتور رفعت يعترف صراحة بخوفه من مواجهة الجماهير بحقيقته الفكرية ، ويقول بالحرف الواحد : (إن الدين هو المكون الأساسي لوعي الجماهير ، ولا يمكن أن يطرح إنسان أي فكر يتناقض مع الوعي الديني للجماهير) . (23) ولكن ، هذا الخوف يليق بالشباب الماركسي الصغير السن والتجربة ، أما مفكر مثلك بتجربتك الطويلة وتاريخك الضارب في أعماق الماركسية ، فإنه لا يليق به أن يخاف من الجماهير المتدينة ، وعليه أن يتحلى بالشجاعة أخلاقيا على الأقل كما لا يليق بك أن تعطي تلاميذك درسا في عدم الخوف من الجماهير ، وضرورة عدم تجميل الماركسية بالمكياج الذي يخفى حقيقتها التي قد لا تعجب البعض وتعنفهم على التنكر لها بدعوى استنقاذ أجزاء أخرى منها ، ثم تمارس أنت نفسك كل هذه (الموبقات) التي حذرت منها . إن الهلع وصل إلى حد أن ينكر ماركسيته أمام الصحفيين ، فعندما سأله أحدهم عن انتمائه الفكري قال : أنا (يساري علماني) ؟! (24) هذا عيب يا دكتور وإذا كانت الماركسية عورة وسبة ، فلماذا لا تعلن ذلك بشجاعة بدلا من هذا الالتواء ؟! والحقيقة أن هذا الخلل الكبير ، قد أثر بشكل واضح على آراء الدكتور (رفعت) وكتاباته ، وانعكس الأمر في صورة اضطراب عجيب ومثير للشفقة ، ففي مرة يعلن إيمانه بالوحي والكتاب والسنة ووجوب احترامها والعمل وفقهما ، ثم لما سأله أحد الصحفيين عن المرجعية التي تفسر نص القرآن قال : (في تصوري أن المرجعية أولا وأخيرا للجماهير) ؟! (25) وهذا المستوى من الحديث وضحالته وطرافته ، لا يليق به أن يصدر عن مثل الدكتور رفعت ، وإذا كان الدكتور لم يفصل ، كيف تفسر الجماهير النصوص ؟ هل يطرح النص في استفتاء شعبي لبيان مفهومه عند الشعب ؟ إلا أن الدكتور يعود في مواقف أخرى ليتقرب من جوهر موقفه الأصيل ، وإن لم يتطابق معه كليا حيث يعلن أن الوحي قد تم دفنه مع موت النبي ويؤكد قائلا في حسم ووضوح : (بعبارة واحدة أرى أنه مع انقطاع الوحي حل العقل الجمعي محل الوحي ، وعلينا أن نعتمد عليه) . (26) هكذا ، فلا وحي ولا صحيح للدين ، ولا حتى فاسده ، فقد تم دفن الجميع بوفاة النبي وانقطاع الوحي ، وحلت الجماهير محل الوحي ، وبذلك فهي في غير حاجة لتفسيره من الأساس ؟!! ثم كتب بعد ذلك يهنئ إحدى دور النشر لأنها نشرت كتابا عن (تاريخ الإلحاد في الإسلام) . (27) ولا شك أن هذا الاضطراب المثير في مواقف الدكتور رفعت قد أفرز لنا تناقضات هائلة في آرائه وكتاباته إلى الحد الذي يجعله يقول الشيء ثم ينقضه ، ويمجد وطنية الرجل ثم يعود ليتهمه بالعمالة ، وغير ذلك من تناقضات مذهلة ، نعرض لها بالتفصيل في الفصل القادم . هوامش: (16) ماركسية المستقبل ، ص 9 ، 10 . (17) نفسه ، ص 105 . (18) ماركسية المستقبل ، ص 106 . (19) رفعت السعيد (ضد التأسلم) ، ص 166 ، ط : كتاب الأهالي رقم 56 يونيو 1996 , (20) المصدر نفسه ، ص 216 . (21) ماركسية المستقبل ، ص 9 . (22) ماركسية المستقبل ، ص 106 . (23) ضد التأسلم ، ص 217 . (24) نفسه ، ص 147 . (25) ضد التأسلم ، ص 250 . (26) نفسه ، ص 252 . (27) رفعت السعيد ، صفحة من تاريخ مصر ، الأهالي 6 3 1996 .