في كتابه المثير والرائع (الدولة في الإسلام) كتب الراحل الكبير خالد محمد خالد ، يعتذر للأمة عن خطئه القديم عندما هاجم التاريخ الإسلامي وهاجم الحكومة الإسلامية ونفى وجودها وشرعيتها في كتابه الشهير (من هنا نبدأ) . (44) فكتب يقول : (ذهبت أقرر أن الإسلام دين لا دولة ، وأنه ليس في حاجة إلى أن يكون دولة ، وأن الدين علامات تضيء لنا الطريق إلى الله ، وليس قوة سياسية تتحكم في الناس ، وتأخذهم بالقوة إلى سواء السبيل ، ما على الدين إلا البلاغ وليس من حقه أن يقود بالعصا من يريد لهم الهدى وحسن ثواب . وقلت : إن الدين حيت يتحول إلى حكومة فإن هذه الحكومة الدينية تتحول إلى عبء لا يطاق وذهبت أعدد يومئذ ما أسميته: غرائز الحكومة الدينية وزعمت لنفسي القدرة على إقامة البراهين على أنها -أعني الحكومة الدينية- في تسع وتسعين في المائة من حالاتها جحيم وفوضى وأنها إحدى المؤسسات التاريخية التي استنفدت أغراضها، ولم يعد لها في التاريخ الحديث دور تؤديه، وكان خطئي أنني عممت الحديث حتى شمل الحكومة الإسلامية ، وقلت : إن غرائز الحكومة الدينية تجعلها بعيدة عن الدين كل البعد) . ثم يضيف رحمه الله قائلا : (وحين أرجع بذاكرتي إلى الأيام التي سطرت فيها هذا الرأي وهذه الكلمات لا أخطئ التعرف إلى العوامل التي تغشتني بهذا التفكير ، والكاتب حين يحيا بفكر مفتوح بعيدا عن ظلام التعصب وغواشي العناد ، فإنه يستطيع دائما أو غالبا أن يهتدي إلى الصواب ويقترب من الحقيقة ويعانقها في يقين جديد وحبور أكيد ، ونحن مطالبون بأن نفكر دائما ونراجع أفكارنا ، وننكر ذواتنا ، ونتخلى عن كبريائنا أمام الحقائق الوافدة) . (45) ثم يتابع (خالد محمد خالد) رحلته مع العقل والتطور ، متحدثا عن أسباب غلطه وخطئه فيرده إلى سببين : تأثره بتاريخ الكنيسة وصراعاتها في التاريخ الأوروبي في العصور الوسطى ، وكذلك تأثره السلبي بأعمال العنف التي ارتكبها أفراد الجهاز الخاص للإخوان المسلمين . ويضيف آملا التركيز الشديد في عباراته (كان الخطأ الأول مضاهاتي الحكومات الدينية الكنسية بحكم الإسلام ، وكان الخطأ الثاني تعميم نتائج ما اقترفه الجهاز السري باسم الإسلام ، وفي كل الخطأين كان هناك خطأ في المنهج ذاته ، فقد جعلت ما تأثرت به من قراءاتي عن الحكومة الدينية في المسيحية ، وما تأثرت به من تحول بعض الشباب المسلم ممن نساك إلى قتلة ، جعلت هذا وذاك (مصدر) تفكيري لا (موضع) تفكيري . وفارق كبير بين أن تجعل الحديث أو الشيء مصدر تفكيرك ، وبين أن تجعله موضع تفكيرك ، عندما يكون مصدر تفكيرك فإنه يقودك في طريقه هو لا في طريق الحقيقة ، وتبصر نفسك من حيث لا تشعر أو لا تشعر مشدودا إلى مقدمات ، وسائرا نحو نتائج الاستقلال الفكري ، حظه من تمعنها ودراستها ، أما حين يكون الشيء موضع تفكيرك فإنه يمد تفكيرك المحايد والمستقل بكل اعتبارات القضية المدروسة دون أن يلزمك بحكم مسبق يتحرك الفكر داخل إطاره الحديدي الصارم . إلى هذا السبب الجوهري أرد خطئي فيما أصدرته قديما من حكم ضد الحكومة في الإسلام ، هذه التي أسميتها بالحكومة الدينية) . (46) أعتذر عن هذه الإطالة في الاقتباس ، ولكني وجدتها ضرورية للغاية لبعض سياقنا الحالي . فمن جانب ، فإن كتاب (من هنا نبدأ) هو المرجع الخصب لمعظم مقولات الدكتور رفعت السعيد ، وإن لم يصرح هو بذلك ، وإنما تكفي مراجعة الكتاب ومراجعة أقوال (رفعت) نجد التطابق مذهلا ، ليس في الحديث عن الحكومة الدينية وفسادها ونحو ذلك فحسب ، بل أيضا عن الاشتراكية كأمل للشعوب وراية للنهضة ! الجانب الآخر هو التماس هذه الروح العلمية الصادقة والشفافة الباحثة عن الحقيقة ، فاهتدت إليها ، لنقارنها بروح الانغلاق والجمود والثأر والانتهازية السياسية والفكرية مهما كانت نتائجها ، ولو أدت إلى خراب الوطن نفسه ! والجانب الثالث وهو الأكثر أهمية لسياقنا الحالي هو الأساس المنهجي العميق الذي نبه إليه (خالد محمد خالد)* ، وهو ضرورة التفريق بين الأحداث كموضع للتفكير ، وبين الأحداث كمصدر للتفكير ، وكيف أنها لو جعلناها مصدرا للتفكير ستنتهي بنا بعيدا عن الحقيقة والصدق وتسجننا في إطار حديدي مغلق . وهذا هو الخلل المنهجي الكبير الذي يقع فيه (المفكر الماركسي) رفعت السعيد عندما ينظر إلى الحركات الإسلامية بشكل عام ، والإخوان المسلمين بشكل خاص ، إنه يجتزئ بعض مواقف قديمة أو أقوالا شاردة في خطبة حماسية أو عبارات أدبية قالها أحدهم لكي يجعلها (مصدر تفكيره) ويبني عليها رؤيته لمنهج الحركة وتاريخها كله . والحقيقة أننا إضافة إلى ما سبق لا يمكننا إبعاد الهوى والغرض عن مثل هذا الخلل المنهجي في كتابات (رفعت السعيد) ، وهو لذلك يتصف بالقدرة الهائلة على رفع الشخص أو التيار إلى السماء ثم يهبط به إلى أسفل سافلين ، ولا يجد في ذلك أي حرج أو تناقض ، مثلما فعل مع الباحث الدكتور (رفيق حبيب) حيث كتب عن غزلا يحيله إلى ما يشبه نجمات السماء وكواكبها ، ثم كتب عنه بعد ذلك يصفه بأنه يعلو عن مستوى (راقصة تهز الوسط) . (47) وهكذا في موقفه مع الإخوان ، فهو يجعلهم عملاء للصهيونية والأمريكان ، لكنه يعود ليعترف بأنهم أبطال المقاومة المصرية ضد الصهيونية ، وكتب بالحرب الواحد يقول : (يجب أن نضع في الاعتبار أن القوى التقدمية المصرية ، والأحزاب الوطنية لم تنتبه لخطر الصهيونية ، ربما لعدم نمو الإدراك العربي لديها ، وربما لعدم إدراك مخطرها الحقيقية ، ولم يتصد لمقاومة الصهيونية في بداية الأمر سوى الإخوان المسلمين) . (48) غير أن معظم كتابات (رفعت السعيد) عن تاريخ الإخوان عدائية وثأرية اللغة ، وسطحية إلى حد كبير في فهم الأحداث ، وانتقائية في اختيار المصادر ، حتى وصل الأمر به كما سبق إلى جعل أحد مصادره ضابطا من مباحث أمن الدولة ! والحقيقة أن جرأة الدكتور (رفعت) على التاريخ تصل أحيانا كثيرة إلى حد القبول بالسخافات والأساطير ، مثل حديثه عن أن جيش معاوية بن أبي سفيان عندما دخل المدينة المنور ، اغتصب عذرية ألف فتاة بكر من بنات المسلمين (49) ، فمثل هذا الهراء لا يليق بباحث ينتمي إلى الأكاديمية) . وبالمناسبة فهناك (أكاديمي) آخر لعله هو أيضا من هؤلاء الفاشلين الذين حصلوا على شهاداتهم رشا من (جنة الشيوعية) كتب في بحث يدرسه للطلبة أن المسلمين عندما فتحو الأندلس طبخوا أول جندي مسيحي قتلوه وأكلوه !! فمثل هذه الخرافات والسخافات لا يليق برفعت السعيد أن يرددها ، لأن منهج (ألف ليلة وليلة) لا يمكن نسبته إلى العلم والصدق والأمانة ، ولا العقل أيضا !! ولكن يبدو أن الرغبة العارمة في تشويه الخصوم أو الأفكار المخالفة له هي أكبر وأعتى من الضبط العلمي ، ومن العقل معا . ........ والحقيقة أن المرء يحار أحيانا في فهم مراد الدكتور رفعت السعيد من معارضاته للمفكرين والعلماء المسلمين ، فإنه وفق قاعدة التناقض يذم أحدهم إذا قال برأي ثم يعود ليمجد نفس الرأي عندما يصدر من شخص آخر ، مثلما تغزل بإطراء عجيب في كلماته لفضيلة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله دعا فيها إلى التخفف من أثقال بعض المتون والحواشي والتفاسير لكي نستطيع أن نتصل مباشرة بمنبع النور ، بالقرآن الكريم ذاته . (50) لكنه يعود ليهاجم المفكر الإسلامي المستشار طارق البشري عندما يدعو بنفس الدعوة ، بل ويتهمه بأنه يتماثل في ذلك مع أقوال شكري مصطفى زعم التفكير والهجرة ؟! (51) فلم نعد ندري ، هل هو مع التخفف من التراث أم أ،ه مع حمله جملة وتفصيلا ، مرة أخرى يحيرنا الدكتور ، والمثير للدهشة والاستغراب أن نفس المنهج الذي هاجم بسببه (طارق البشري) وقف هو نفسه ليدافع عنه أمام رفاقه الماركسيين ، حيث طالب بالتخفف من ركام المؤلفات والشروح الماركسية وأضاف قائلا : (ضرورة اللجوء إلى المنابع الأصلية للفكر الماركسي في محاولة للتعرف على الأصول الحقيقية والقوانين العامة التي تولدت منه) . (52) ويبدو أن منهج (شكري مصطفى) استطاع في نهاية المطاف أن يجتذب الدكتور رفعت السعيد إلى صفه ! وعلى جانب آخر ، بينما نجد الدكتور رفعت السعيد يهاجم بضراوة من سماهم (المتأسلمون الذين يفرضون علينا رأيهم دون غيره ، مفترضين أنه وحده صحيح الإسلام) (53) بينما يقول هو ذلك ، نجده يمارس نفس ما يأخذه على خصومه ، فقد جعل من نفسه الوصي الوحيد على صحيح الدين ، فمن وافقه فقد وافق صحيح الدين ومن خالفه فقد خرج على صحيح الدين !! والمدهش أنه أخرج العلماء جميعا أو غالبيتهم من صحيح الدين ، فشيخ الأزهر عنده لا يفهم صحيح الدين ، والشيخ الشعراوي متأسلم وخارج على صحيح الدين ، والشيخ محمد الغزالي يفتي بما هو ضد صحيح الدين . والمسألة كما هو واضح تحولت إلى نوع من الكوميديا المسفة ، خاصة إذا تذكرنا أن هذا الذي جعل نفسه مرجعية صحيح الدين هو نفسه الذي يعلن إيمانه المطلق واليقيني بالماركسية وكل قوانينها التي سماها بالعلمية ؟!! والمثير للأسى في هذا المجال ، أنه عندما وقع الخلاف بين شيخ الأزهر سابقا والمفتي السابق حول تحريم (الفائدة) في البنوك حيث أباحها المفتي ، علق قائلا : (من جانبنا نحن نفضل اجتهادات دار الإفتاء وفضيلة المفتي) (54) ، إلى هذا الحد ، الانحياز إلى الفائدة ، هل هذا معقول يا دكتور ؟ دعنا من حكاية صحيح الدين ، فهي واسعة ! ولكن لنتحدث عن (صحيح الماركسية) ، هل في صحيح الماركسية تدافعون عن (الفائدة) ؟ّ! هل هذا معقول ؟! 3 بقيت ملاحظتان بسيطتان ، أختتم بهما هذا الفصل : الملاحظة الأولى : تتعلق بحرمة القرآن الكريم عند المسلمين ، وعدم جواز العبث به وبآياته ، على النحو الذي وقع في كتاب الدكتور رفعت السعيد (ضد التأسلم) ، الذي صدر ضمن سلسلة كتاب الأهالي ، فقد كانت الأمانة والمروءة تقتضيان الدقة في نقل الآيات القرآنية بدلا من هذا التشويه والأخطاء الفاحشة في كتابة بعض الآيات ، وقد يرى البعض أن هذه الأخطاء غير ذات قيمة ، عندما يسقط سطر كامل من آية ، وكلمات من غيرها ، على أساس أنه كتاب من الكتب ، ولكنه (القرآن) عند المسلمين وأهل الإيمان كلام الله ، وهو مقدس ، ولا يجوز العبث فيه بإسقاط كلمة فما فوقها ، بل حرف فما فوقه ، وإني أطالب الدكتور رفعت السعيد مؤلف الكتاب بالإعلان عن تصويب هذه الأخطاء الفاحشة ، مثل ما وقع في الصفحة رقم 9 ، وآية سورة الحج ، وعليه أن يقوم بسحب النسخ المطروحة في الأسواق لإجراء التصويب اللازم قبل إعادة طرحها من جديد .. والملاحظة الثانية : تتعلق بالأمانة العلمية ، والتواضع للبحث العلمي ، فهذا أبسط ما يمكن اشتراطه فيمن يتصدى للكتابة ، ناهيك عن باحث أكاديمي ، فلم يكن من اللائق بالدكتور رفعت السعيد أن ينسب لنفسه أنه بحث عن أصل كلمة (أهل الحل والعقد) في تاريخ الإسلام حتى وجد أن أول من قالها هو (الماوردي) ، بل إن الدكتور يغالي ويزايد في جهده المزعوم فيقول : (لقد اجتهدت كثيرا لكي أعرف من أين أتت كلمة أهل الحل والعقد ، واكتشفت ...) . (55) ومشكلة الدكتور أنه ينسى كثيرا ، وهنا نسى أنه اعتراف سابقا بنقل هذه المعلومة من بحث (اجتهدت فيه) الباحثة الدكتورة (هالة مصطفى) في كتابها (النظام السياسي والمعارضة الإسلامية في مصر) الصفحة رقم 48 ، وقد نقلها عنها الدكتور رفعت في مقالة نشرها في جريدة الأهالي بتاريخ 3 مايو 1995 ، فمن العيب ، والعار أن يتحدث الرجل بقوله : (اجتهدت كثيرا لي أعرف ..) إلا إذا افترض أن قراءته لكتاب (هالة مصطفى) نوع من الاجتهاد الكثير ؟!!! هوامش: (44) المثير للدهشة أن معظم العلمانيين العرب لا يزالون حتى الآن يعتبرون كتاب (من هنا نبدأ) مرجعية للتنوير ونموذجا للروح العلمية في دراسة تاريخ الإسلام ، متجاهلين نقد المؤلف نفسه لكتابه ، وإعلانه البراءة من منهجه فيه ، ويتجاهلون كذلك كتاب (الدولة في الإسلام) رغم خطورته ! (45) خالد محمد خالد (الدولة في الإسلام) ، ص 11 ، ط دار ثابت الثالثة 1989 . (46) المصدر نفسه ، ص 16 . (47) راجع طلعت رميح (الوسط والإخوان) ص 101 ، 102 ، ط. مركز يافا للدراسات والأبحاث بدون تاريخ . (48) اليسار المصري والقضية الفلسطينية ، ص 292 . (49) ضد التأسلم ، ص 18 . (50) ضد التأسلم ، ص 20 . (51) رفعت السعيد ، صفحة من تاريخ مصر ، الأهالي 19 2 1997 . (52) ماركسية المستقبل ، ص 62 . (53) ضد التأسلم ، ص 6 . (54) ضد التأسلم ، ص 48 . (55) ضد التأسلم ، ص 250 .