الصدام المؤسف الجاري حاليا بين جناحي العدالة ، نادي القضاة ونقابة المحامين دليل جديد على أن "الدولة" تعيش أجواء التفكيك ، حيث تتحول مؤسساتها إلى قبائل ، ويتصرف أبناء كل مؤسسة بمنطق القبيلة ، وتستخدم كل قبيلة ما تحت أيديها من أداوات الدولة لتحقيق مصالحها أو حماية أبناء القبيلة ، ولم يكن مثل ذلك الصدام الخطير يحدث لو أن "كبير البلد" حاضر بعافيته وذهنه وتوقده وحيويته، أو أن هناك قيما مستقرة حاكمة في "الدولة" أعلى من نزغات الأشخاص وأهواء الخلق ، فكان من الطبيعي أن يتصرف أبناء كل "قبيلة" بما يرونه انتزاعا لحقوقهم أو مصالحهم بأيديهم وما يتوفر لهم من أدوات ، يحدث هذا في الصدام بين محافظة القاهرة والبرلمان الذي فرض الحماية على عضو قيادي فيه استباح قواعد الدولة وقوانينها وأهدر "حقوقها" فنصروه ظالما بدعمه في غيه وظلمه لأنه من "أبناء القبيلة" وأهانوا شيخ القبيلة الأخرى "المحافظ" ومجلسه المحلي وشككوا في ذمته وسلامة قراراته ونواياه ، والكنيسة تتصرف بموجب أنها "قبيلة" ، سواء أمام الدولة أو أمام الطوائف المسيحية الأخرى أو مع المسلمين ، وتبسط حمايتها على أبناء القبيلة وشرف القبيلة دون نظر إلى وجود دولة من حيث الأساس ، بل وصل الأمر إلى السخرية من الدولة وقوانينها وقراراتها ، واليوم تتصرف النيابة والمحامين بنفس منطق القبائل ، لقد حدث تحرش عادي بين مدير نيابة طنطا وبين أحد المحامين ، وكلاهما من الشباب الذي يفتقر إلى الخبرة والحكمة والمراس وتتصف سلوكيات البعض منهم بالاندفاع والطيش ، غضب مدير النيابة باعتبار أن المحامي دخل مكتبه بدون استئذان ، وأسمع الآخر "كلمتين" ، فاستثار المحامي الذي رد الكلمتين ، فأمر مدير النيابة حرسه بإمساك المحامي وتقييده ثم صفعه بكفه على وجهه ، فهاجت الأمور واستغل المحامي فك قيده ورد الصاع لمدير النيابة على وجهه أمام بعض أبناء "قبيلته" الذين غضبوا للإهانة وقرروا محاكمة المحامي وآخر معه خلال أربع وعشرين ساعة ، وخلال ساعتين فقط أعلنوا أنهم سجنوهما خمس سنوات ، وهي أسرع من المحاكمات العسكرية ذائعة الصيت ، والمؤكد أنه قرار بعيد عن "العدالة العمياء" ، سبق "قرار" الحبس تراشق بالتهديد والوعيد بين رئيس نادي القضاة المستشار أحمد الزند ونقيب المحامين الأستاذ حمدي خليفة ، كان واضحا من التراشق "نفس" المزايدة السياسية بين "شيوخ" القبائل ، لأن كلا منهما يتعرض لمشكلات داخل بيت القبيلة ، الزند يواجه تمردا وشكوكا من قطاع كبير من أعضاء نادي القضاة وتيار الاستقلال فيه ، فمن المهم أن يظهر بصورة المتعصب للقبيلة والحامي لحماها ، بعيدا عن "الحكمة" والإحساس بالمسؤولية تجاه "دولة" يفترض وجودها ، ويفترض أن مثل هذه "الرعونة" في التعامل مع وقائع كهذه يعرضها للاهتزاز ، بالمقابل تصرف حمدي خليفة كشيخ قبيلة مهدد في مكانته ومقامه بين أبناء قبيلته ، وهم الذين تمردوا عليه قبل أسبوع باتهامه بالتفريط في حق "أبناء القبيلة" وهددوا بسحب الثقة منه ، فكان رد فعله المزيد من التصريحات والغضب وتهييج المحامين لإثبات أنه لا يقصر في حق وشرف "أبناء القبيلة" ، ودائما الحرائق الكبرى تبدأ من مستصغر الشرر ، والسلوك الذي قام به مدير نيابة طنطا والمحامي سلوك مدان من الاثنين ، نظريا ، ولكن لأن كلا منهم نشأ في "ثقافة" سياسية وقانونية واجتماعية توحي بأن "الدولة" الآن ظل خافت لا يقيم عدلا ولا ينصف مظلوما ، فتصرف كل منهم بما يمليه عليه تقديره الشخصي للموقف ، باعتباره مبتدأ الأمر ومنتهاه ، وذلك أمر شرحه يطول ، غير أن المهم هنا ، والخطير ، هو أن مثل هذه الحادثة إذا لم يتم احتواؤها عاجلا من "عقلاء" فإننا سنكون أمام مشهد أكثر سوداوية وعبثية ، وقد نرى ساحات المحاكم والنيابات وقد تحولت إلى "غابة" يستبيح فيها الكل الكل ، ويتم التعامل بين المحامين والقضاء بلغة الأحذية وربما ما هو أسوأ ، وفي كل الأحوال فإن أي حل لمثل هذه الوقائع سيكون حلا جزئيا ومؤقتا ، مسكنا ، لأن حال الدولة وثقافة المجتمع الآن تغري بمثل هذا الانفلات وتعين عليه ، فإلى أي مدى يمكن أن تتحمل "مصر" منطق "القبائل" في جدل مؤسساتها وأجهزتها ، نسأل الله اللطف بمستقبل البلد . [email protected]