أستاذنا الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة في كتابه الماتع الممتع: " قراءة في دفاتر المواطنة المصرية.. الزحف غير المقدس .. تأميم الدولة للدين " يقول أنه في زيارته لألمانيا سأل أحد الألمان فقال له "ما الذي يجعلك ترضى عن الدولة؟ وظن الدكتور سيف بوصفه باحثاً في العلوم السياسية ... أنه سأل سؤولاً عويصاً، وتوقع أن يسمع منه محاضرة في السياسة ومعانيها وفي علاقة المواطن بالسلطة ... وغير ذلك مما توقعه، إلا أن الباحث الألماني قال له الذي يجعلني راضي عن دولتي هو : " عامل النظافة في الشارع الذي يستيقظ قبلي، ورجل الإدارة الذي يقضي مصالحي، ورجل الشرطة الذي لا أشعر به إلا إذا احتجته" وبعد أن تأمل الدكتور سيف في هذه الإجابة قال : "أن تلك الإجابة أفصح مما تمنيت سماعه ، وأبلغ مما رغبت في الحديث فيه "... إنها ثلاثية الرضى" عامل النظافة في الشارع الذي يستيقظ قبلي، ورجل الإدارة الذي يقضي مصالحي، ورجل الشرطة الذي لا أشعر به إلا إذا احتجته" تذكرت هذا الحوار بعد أن شاهدت الصورة الدامية والبشعة لوجه مبرمج الكمبيوتر خالد سعيد وعرفت أنها صورة لأحد شباب مصر... لأنني قبل أن أقرأ تفاصيل الخبر لم أكن أتوقع إطلاقاً ولا خطر على بالي أنها صورة لشاب مصري ... بل هي صورة أخرى لأحد ضحايا الهجوم البربري الصهيوني على غزة... ... ومما زاد من غمي وحزني أنه لم يُقتل نتيجة لثأر عائلي، أو خلاف مع شخص ما، أو دهسته سيارة ... بل على يد "بعض رجال الشرطة" الأصل أن مهمتهم حفظ الأمن وحماية المواطن... وبدلاً من أن تقوم وزارة الداخلية بمحاسبة الجاني وأعوانه فإذا بها كما هي عادتها دائماً تسعى لتبرئته وحمايته بل وتشويه سمعة المجني عليه باختلاق الأكاذيب ونشرها عبر أبواقها الإعلامية. وكما هو متوقع صدرالأربعاء 23/6/2010م التقريرالثاني من مصلحة الطب الشرعي يؤيد ما جاء في التقرير الأول، من أن وفاة الشاب خالد سعيد كانت نتيجة "إسفكسيا" الاختناق، بسبب انسداد المسالك الهوائية لتناوله لفافة (البانجو) وأن الإصابات التي بجسمه نتيجة لمحاولة السيطرة عليه أثناء القبض عليه، لكنها في مجملها بسيطة ولا يمكن أن تؤدي إلى الوفاة... أرايتم مدى الاستخفاف واللامبلاه بمشاعر الناس وبشهادة الشهود.. قالوا "إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" هذه الجريمة البشعة ليست الأولي من نوعها التي يرتكبها بعض أفراد الشرطة ولن تكون الأخيرة فهناك العديد من الحالات المشابهة التي تم توثيق بعضها في العديد من تقارير المنظمات الدولية والوطنية وأفلت مرتكبوها من العقاب ولم يحاسبهم أحد ... لأن سياسة العنف المنظم والعشوائي الذي تمارسه الشرطة في تعاملها مع كافة أبناء الشعب المصري خاصة القوى الوطنية والعناصر الفاعلة فيه المناهضة للظلم والفساد في كل أجهزة الدولة تتم بمعرفة وتشجيع النظام... فأمسى وأصبح كل جهاز من أجهزته يتصرف من وحي الهوى والمزاج ومتطلبات إثبات الذات والبقاء دون أن يخشى أحد... وكما يقول الأستاذ جمال سلطان تعليقاً على الصدام بين المحامين والقضاة: "أن الدولة تعيش أجواء التفكيك، حيث تتحول مؤسساتها إلى قبائل، ويتصرف أبناء كل مؤسسة بمنطق القبيلة، وتستخدم كل قبيلة ما تحت أيديها من أدوات الدولة لتحقيق مصالحها أوحماية أبناء القبيلة... " وتأسيساً على ما تقدم ونتيجة لذلك... غاب الأمن وساد الظلم واستأسد الفساد واستشرى كالسرطان وأصبح الناس غير آمنين لا على أنفسهم ولا على أموالهم وأعراضهم... ولوكان في هذا النظام بقية من خير أو رجل رشيد مسموع الكلمة... لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من انهيار... فالمشهد الحالي أشار إلى مقدماته وحذر من خطورة تداعياته الكثير من المخلصين من أبناء هذا الوطن خاصة المستشار طارق البشري في كتابه القيم "مصر بين العصيان والتفكك" والذي صدرت الطبعة الأولى منه في 2006م ... ولكن لا حياة لمن تنادي. لقد اكتفى النظام بقراءة التقارير الأمنية التي تُرفع له فقط والتي اختزلت مفهوم الأمن في الحفاظ على أفراد هذا النظام وحاشيته ومكتسباتهم... ومن ثم فلا حُرمة لأحد فرداً كان أو جماعة، ولا احترام لقانون ولاسيادة لدستور... إنها جمهورية الخوف ... إنها دولة الأمن والبوليس ... دولة المزاج والمزاج دولة بلا دستور. ولكن جمهورية الخوف هذه ... وحتى نكون منصفين ليست وليدة هذا العصر وحده فقط بل هي الطورالثالث لجمهورية الخوف التي أسس بنيانها وشاد أركانها وبسط سلطانها حتى دخلت كل بيت خريجي مدرسة حركة الضباط الأحرار الذين حكموا مصر منذ فجر 23 يوليو 1952م وحتى اليوم... هؤلاء الضباط كانوا "كوكتيل" متعدد المشارب والأهواء والمرجعيات ما يفرقهم أكثر مما يجمعهم... لم تكن لديهم رؤية ذات مرجعية واضحة للإصلاح وصناعة المستقبل... فأصبح حاضر البلاد ومستقبلها مرهونا بمزاج وهوى الزعيم فلا صوت يعلوا فوق صوته... فهو القانون وهو الدستور... لا هم له سوى إكثار وتنمية الفساد ومحاربة مظاهر التدين في المجتمع ودعاة الفضيلة والخير فيه... فغدت البلاد سجنا كبيرا انتهكت فيه الأعراض والحرمات وضاعت الحقوق والواجبات... وإن اختلفت الدرجة والوسيلة من عصر إلى عصر.... رغم هذا القهر والعدوان والظلم ليتهم حققوا لنا شيئا يُذكر... فمغامرات عبد الناصر الخارجية ومشاريعه الوحدوية انتهت كلها بالفشل وتوجت بهزيمة 1967م والقبول بمبادرة روجرز 1969م، أما إسهاماته الاشتراكية، وما تبقى من أفكاره الناصرية والوحدوية فهدمها السادات بثورته التصحيحية والتوجه نحو الغرب واقتصاد "السوء" والصلح مع الصهاينة... وما بقي من ميراث تاريخي وحضاري وسياسي واقتصادي استعصى على الاحتلال والملك وعبد الناصر والسادات أتى عليه نظام مبارك من القواعد... فلا أبقى لنا دنيا ولا أبقى لنا دينا ...الأمر الذي نتج عنه ما نعانيه اليوم من تفكك وانهيار على كل المستويات وشيوع الظلم واستئساد للفساد. وللخروج من هذه الحالة وحتى يكون الشاب خالد سعيد "رحمه الله" آخر الضحايا ... فلا نجاة ولا سبيل إلى الخلاص... إلا بزوال هذا التحالف وأذنابه ومدارسه... الأمر الذي يتطلب من القوى الوطنية والإسلامية وكل المخلصين في ارض الكنانة التحالف والتناصر و أخذ زمام المبادرة لقيادة عملية التغيير والإصلاح واليقظة كل اليقظة ... والحذر كل الحذر مما يحاك من وراء الكواليس في الداخل والخارج من أجل إعادة تمكين هذا التحالف من السيطرة على البلاد والعباد في صورة معدلة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُلْدَغ المؤمن من جُحْرٍ واحدٍ مرتين" متفق عليه. وحتى يكون الإصلاح إصلاحاً مستداماً إليكم هذه المعادلة التي نقلها الدكتور سيف عن الماوردي في كتابه المشار إليه أعلاه مع بعض التصرف هذه المعادلة هي: (دين متبع + سلطان = عدل شامل + أمن عام + خصب دائم + أمل فسيح) وإذا اختلت هذه المنظومة لتشكل ما هو : (دين مهمش ومحتكر + سلطان = ظلم شامل + فوضوى وعشوائية كاملة + معيشة ضنك + انسداد الأفق وسيادة الإحباط ) فهل نحن قوم عمليون... [email protected]