تتكرر كثيرا مقولة أهمية تطوير الخطاب السياسي ليناسب الزمان والمتغيرات المعاصرة، وعصر العولمة والانترنت والفضاء المفتوح، وغيرها. وتلك المقولة تحتاج للمزيد من التدقيق. فكل خطاب سياسي يحتاج للتطور، والتطور من سنن الحياة. ولكن المهم هو تحديد المقصود بالتطور، فهناك تغير يحدث عبر الزمن، لذا يلزم تطوير الخطاب السياسي وفقا للمعطيات الجديدة للزمن، بما فيها من تحديات ومعارف ومشكلات، ووفقا لما تتوصل له البشرية من تجارب وخبرات. ولكن هناك تطور آخر لا يوضع في الاعتبار، وهو التطور طبقا لأوضاع المكان، وما فيه من شروط وتحيز واختيارات، فكل مكان له قواعده وأوضاعه وخياراته، لذا يلزم تطوير الخطاب السياسي تبعا لشروط المكان، كما يجب تطوير الخطاب السياسي تبعا لشروط الزمان. فكل خطاب سياسي هو نتاج مكانه وزمانه، وليس زمانه فقط أو مكانه فقط. إذا طبقنا هذا التصور على الحالة السياسية في البلاد العربية والإسلامية ومنها مصر، سنجد أن الموقف من الزمان والمكان، يشرح لنا حقيقة الخطابات السياسية المطروحة على الساحة. وهناك بالطبع المقابلة الأهم، بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، بوصفهما أهم التيارات المتقابلة والمتحاورة والمتصارعة. والملاحظ أن التيار الإسلامي نبع أساسا من المكان، وقام على أسس المكان وحضارته وخصوصيته ومرجعيته، وبالتالي أصبح التيار الإسلامي بحق ابن المكان. وكانت مشكلة التيار الإسلامي في بدايات الصحوة الإسلامية، منذ سبعينات القرن الماضي، تتعلق بقدرته على التكيف مع ظروف وشروط الزمان. ففي هذا الزمن تتفوق الحضارة الغربية، بما قدمته من إنجازات، وما طورته من آليات ومناهج ومعارف، لذا أصبح التحدي الأول الذي يواجه التيار الإسلامي يتعلق بقدرته على هضم ما قدمه الغرب، واختيار المناسب منه. كما كان على التيار الإسلامي تطوير خطابه السياسي مستفيدا من التجربة السياسية الغربية، حتى يستطيع بناء نموذج الدولة الحديثة القائمة على المؤسسية والدستور والقانون، ويختار ما يناسبه من آليات العمل السياسي، والتي يمكن أن تفيد مشروعه ولا تمس ثوابته. ثم كان على التيار الإسلامي إعادة طرح تصوره السياسي في ضوء طبيعة العصر وما به من تعقد، وتطور دور الدولة، وتعقد مهام إدارة شئون الدولة، وغيرها من متغيرات العصر. ولكن في المقابل، سنجد أن التيار العلماني جاء متوافقا مع ما هو سائد في العصر، وتبع مسار الزمان، وعبر عن الفكرة المتقدمة والمنتصرة، وتجاهل المكان الذي يقدم فيه خطابه. فأصبح مدركا لمتغيرات العصر، عارفا بما قدمته الحضارة الغربية، ملما بما يسود في التجربة الغربية، متعمقا في ما يميز هذا العصر من تغيرات. ولكن في المقابل، كان على التيار العلماني أن يعرف طبيعة المكان الذي يتعامل معه، ونوعية المجتمع الذي يخاطبه، والتاريخ الحضاري له، والموروث الحضاري الخاص به، والقيم السائدة فيه، والنظام الاجتماعي الذي يحكمه؛ حتى يأتي خطابه مناسبا للمجتمع الذي يخاطبه، وحتى يأتي متسقا مع القيم السائدة في المجتمع، ونابعا من الثوابت التي تميز مجتمعه، وحتى يكون خطابه مختلفا عن غيره من الخطابات التي توجه لمجتمعات أخرى، وحتى يعرف الفرق بين أن تكون ليبراليا في مجتمع مثل مصر، وأن تكون ليبراليا في مجتمع مثل فرنسا. ولكن الناظر إلى مراحل الخطاب السياسي الإسلامي، والخطاب السياسي العلماني يجد اختلافا واضحا في مسار التحول. فقد بدأ الخطاب الإسلامي متجاوبا مع متغيرات العصر بقدر مناسب، في النصف الأول من القرن العشرين، على يد حسن البنا، حيث أكد مناسبة النظام البرلماني للمشروع الإسلامي. وفي ذلك الوقت، جاء الخطاب العلماني متجاهلا الميراث الحضاري للمكان، بل ومفارقا له، وأيضا معاديا له. وفي سبعينات القرن العشرين، عندما بدأت الصحوة الإسلامية، خاصمة بعض روافدها العصر، وحاولت البعد عنه وتمييز نفسها عنه، حتى تحافظ على نقاء صورتها، خاصة بعد ما تعرضت له الحركة الإسلامية من اجتثاث في المرحلة الناصرية. وفي تلك الفترة، ظل الخطاب العلماني بروافده اليسارية والليبرالية، يؤكد على مرجعيته الغربية، معتبرا أن العصر هو الغرب، متجاهلا الفرق بين مكان وآخر، ومعتبرا أن العصر يقاس بالحضارة الأقوى، وأعتبر الغرب هو النموذج الذي يجب احتذاءه. ثم توالت العقود، فإذا بالتيار الإسلامي يطور خطابه، ويتعامل مع نموذج الدولة المدنية الحديثة، أي دولة المؤسسات والقانون، ويكيف نفسه مع آليات العمل الديمقراطي لتصبح آلية لتطبيق الشورى، ويعيد صياغة خطابه السياسي مستفيدا من قواعد حقوق الإنسان والمساواة والمواطنة، وقدم التيار الوسطي الإسلامي خطابا متطورا يناسب ظروف العصر وشروطه، ويركز على ثوابت المشروع الإسلامي في نفس الوقت، ويرفع شعار وحدة الأمة الإسلامية السياسية، ويتمسك بتحرير كامل أرض فلسطين، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وغيرها من الثوابت. ولم يكن التطور يحدث فقط في تيار الوسطية، بوصفه أحد التيارات الفكرية الإسلامية، ولكن كل التيارات الفكرية الإسلامية الأخرى تطورت بدرجات مختلفة، وبدأت في التكيف مع أدوات العصر، وابتعدت عن الأفكار المعرقلة للحياة والمعرقلة للتفاعل مع الناس، وابتعدت أيضا عن الأفكار التي تضع الحواجز بينها وبين المجتمع، أو تجعلها في خصام مع المجتمع، كما ابتعدت عن مخاصمة منتجات العصر وعلومه وأدواته. وهكذا أصبح مجمل التيار الإسلامي يتطور في سبيل التكيف مع العصر، والالتزام بالثوابت في نفس الوقت. ولكن على الجانب الآخر، سنجد أن التيار العلماني أصبح أكثر علمانية، وأكثر بعدا عن واقع المكان وحضارته وخصوصيته، حتى بات يعمل على إخراج المجتمعات العربية والإسلامية من كل الموروث الحضاري، ولم يحاول تكييف خطابه مع ثوابت المجتمع، بل عمل ومازال يعمل، من أجل تغيير ثوابت الأمة، حتى يلحقها بالحضارة الغربية، فأصبح تيارا يتجاهل طبيعة المكان، ويلحق نفسه بالقوي في هذا الزمان. تلك هي واحدة من أهم المشكلات التي تعاني منها الساحة السياسية، فالتيار الإسلامي تطور بالقدر المناسب، وتكيف مع شروط الزمان، ولكن التيار العلماني يرفض حتى الآن التكيف مع شروط المكان.