لم يبق في كنانتي سهم أطلقه لفضح الباطل الصارخ ونصرة الحق الواضح.. فجأة وجدت "كنانتي" خاوية.. كأنها صورة مصغرة من "كنانة الله في أرضه" - أقصد مصر - التي أصبحت خاوية من الثوابت والقيم والحفاظ على الأرواح والأحياء.. وأصبح فيها الحق باطلاً، والباطل حقًا.. والصباح مساء، والمساء صباحًا.. والنور ظلامًا والظلام نورًا، ورخص فيها الدم المصري، حتى أصبح يراق على يد المصري نفسه، دون خوف من الله أو حياء من بني البشر في شهر كان له عبر القرون مذاقه الخاص في مصر، وروحانيته الخاصة في مصر، وعبقه الخاص في مصر.. هو نفسه المصري الذي كان يفدي أخاه، وهو معه في خندق واحد، بدمه وروحه في معاركه الخالدة، أمام كل غادر أجنبي غادر أجنبي أو معتدٍ آثم. لم يطاوعني قلمي أن يكتب "الحق المر".. وهو طوال عمره يحاول أن يكون حرًا، يكتب حرًا، وينتقد حرًا، ويقول ما يراه حقًا ويدين الله به... رأيت قلمي يصرخ في وجهي عند كل مقالة أكتبها أو كلمة أخطها، وهو يذكرني بقسم الله العظيم في سورة عظيمة تحمل اسمه: { ن، والقلم وما يسطرون}.. سمعته – بما بيننا من التاريخ والعمر والعشرة الطيبة - يذكرني أن ما خطه من مقالات في العديد من الصحف - عبر رحلة الربع قرن من الكتابة - كانت كلها ابتغاء وجه الله، لم يسأل أصحاب الصحف فيها أجرًا، ولم يتكسب منهم بمال، ولم يكن مثل كثير من غيره - ممن كان ولا يزال -إلى المال ميّال!! محبرتي أيضًا انقلب مدادها الأسود إلى مداد أحمر قانٍ بلون الدم.. مثل كل شيء في بلدي أصبح بلون الدم.. الصحف.. الفضائيات.. ألسنة الناس.. المسئولون.. وقبلهم وبعدهم الإعلاميون. وقبل قبلهم الشوارع.. الطرقات.. الميادين.. "أسفلت الطريق".. كلها مصبوغة بالدم. صرخات الثكالى.. آهات الأيامى.. بكاء اليتامى.. نحيب الولايا.. كلها تحولت إلى نزيف من الدم.. وإلى جثث يعلوها الدم ! جلست في خلوتي فيما يشبه محاسبة للنفس أسأل نفسي وبحرقة: هل أن أقصف قلمي بيدي؟! هل أقذف بمحبرتي - بكل ما أوتيت من قوة - في الفضاء الفسيح لتذهب بمدادها القاني الدامي ولا ترجع إلىّ مرة أخرى، فأريح وأستريح.. وأنا واثق أنني لو قذفتها سترجع بنفس القوة، فتنسكب على جسدي ووجهي بلونها الدامي.. ساعتها لعلي أشعر أني واحد من قتلى بلدي أو جرحى بلدي أو مصابي بلدي، فأعيش آلامهم، وأقرأ بصدق حزن ذويهم وأهاليهم.. ربما يستريح ضميري بعض الوقت!! هل أستدعي في داخلي الفارس الشامخ الذي يمتطي جواده، متوشحًا سيفه، شاهرًا رمحه، متحديًا كل زيغ، ناصرًا كل حق.. أناديه وأستصرخه أن يترجل متمثلاً بالمقولة الشهيرة "أما آن للفارس أن يترجل"؟ هل أفعل مثل ما فعل أبو الفوارس "عنترة بن شداد" الذي قُهر من بني قومه ومعاملته لهم، فقرر أن يكسر رمحه، وأن يرشق سيفه في أعلى ساق النخلة، ويطلق لجواده العنان؛ فيسيح في الفضاء الفسيح على حريته.. ويقبع هو في صحراء جرداء، لا يرى فيها أحدًا ولا يراه أحد، كافيًا خيره شره؟ هل أفعل فعل عنترة فأقصف رمحي - أقصد قلمي - وأقذف بمحبرتي، كما قذف هو بسيفه.. وأطلق لجوادي - أقصد "بنات أفكاري" - الحرية أن يجرين في كون الله، ويسبحن في ملكوت الله، دون قيد الكتابة اليومية الموجعة التي أصبحت هي أيضًا مصبوغة بلون الدم؟! في ظل ظروف يحيطها الدم وتكتنفها "الفتنة الكبرى" التي تجعل الحليم حيرانًا، في زمن زيادة "الهرج والمرج" - أي القتل – زمن "لا يعرف القاتل لِم قَتل، ولا المقتول لم قُتل"؟ هل يجوز لي أن أقول لكم جميعًا، مؤيدين ومعارضين، محبين وساخطين، محبين وكارهين: "أستودع الله دينكم وأمانتك وخواتيم أعمالكم"!! العقلاء أشاروا عليّ بذلك لأنني أصبحت "أغرد خارج السرب" مع قلة قليلة نادرة تقول الحق، تغرد معي أيضًا خراج السرب. والعقلاء أيضًا أشاروا علي بألا أطفئ الشمعة المنيرة - وإن كانت صغيرة والغرفة كلها مظلمة - لأنها تمثل بصيصًا من الأمل للتحرك والسعي ولو داخل الغرفة.. والعقلاء أشاروا أيضًا ألا نلعن الظلام، بل نستمر "نحدو" على الشمعة ونحيطها بأيدينا ولا نسمح للنافخين فيها بأبواقهم العكرة وأفواههم العفنة حتى لا تنطفئ، وتظل وسيلة للخروج من الظلام.. وشمعة مع شمعة، وشرارة مع شرارة، تعني مزيدًا من الضوء، ومزيدًا من النار الهادية للساري في الليل البهيم، وقديمًا قالوها حكمة: "إن معظم النار من مستصغر الشرر".
*********************************************** ◄◄قالت الحكماء ◄"يصعد ماء البحر المالح إلى السماء بخارًا، فيكون غمامًا، ثم يعود إلى الأرض غيثًا عذبًا نقيًا.. اصعد بقلبك إلى السماء وانظر كيف يعود"؟..) ابن القيم)دمتم بحب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.