في ثمانينات القرن الماضي؛ أنهيت دراستي الجامعية، في بلدي الحبيب (ثوريستان)، وكنت مثل كل زملائي نحمل الآمال الكبار، والأحلام العظام بمستقبل باهر ينتظرنا جميعاً في بلدنا الثوري الرائد. ثم ما لبثنا أن أفقنا من أحلامنا الوردية على حقائق مفجعة جهلناها، وعلى واقع مفزع غيبونا عنه، بل وعلى كوارث غيبوها عنا!؟. الحلم الثوري ... والسوبر باشوات!؟: مشكلتنا أننا عشنا فترات أو مراحل الأحلام، ثم عشنا أيضاً مراحل الحصاد المر لتحطم هذه الأحلام!؟. وعايشنا مراحل بزوغ آلهة الثورية، ثم عايشنا مراحل سقوط وتحطم تلك الآلهة الرعناء الجوفاء!؟. لقد عشنا (مرحلة الحلم الناصري الثوري)؛ والتي فيها أدخلنا أشاوسنا الثوريون تجارب تحررية أضاعتنا، ومغامرات ثورية غزت إفريقيا وآسيا؛ بل ومعظم قارات الدنيا!؟. وكانت جدراننا يزينها صور (لومومبا)، و(كاسترو) و(جيفارا) و(نهرو) و(تيتو) بجانب صور ثوارنا!؟. وتغنينا بأناشيد من عينة (ثوار لآخر مدى ثوار)!؟. وبعد عقود طويلة ومريرة؛ جاء وقت المراجعة وحانت ساعة الحصاد!؟. فاكتشفنا أن تجاربنا الثورية؛ كانت مجرد عنتريات أنهكت خزائننا، ودمرت جيوشنا، وأثارت كل الدنيا ضدنا!؟. ثم اختتمت تجاربنا بمهزلة الهزيمة، أو النكسة كما وسمها ساحر الملك (الأستاذ) سامحه الله!؟. وتأملنا البلاد المجاورة؛ والتي كنا نستعلي عليها بثوريتنا، ونعايرهم بتقدميتنا، ونسخر منهم باشتراكيتنا، ونوصمها بأنها رجعية وملكية ومتخلفة؛ فاكتشفنا أن ميزان الرخاء والرفاهية قد مال إليها، وصال وجال فيها الخير؛ فصدمنا في ثوريتنا وتقدميتنا؛ التي أورثتنا التأخر والفقر والتخلف والهزائم والدكتاتورية!؟. ثم اكتشفنا أننا كنا ضحية وهم كبير صاغه بنجاح سحرة الملك؛ الذين أرضعونا وفطمونا على شعارات ثورية في شعارات عنترية في شعارات غوغائية!؟. وكفرنا بثوارنا الأشاوس؛ الذين تحولوا بالمسيرة الثورية؛ فأصبحوا ملوكاً أغنى من الرجعيين، ودكتاتوريين أقسى من ملوك الرجعية؛ كما سماهم الأديب العظيم يحيى حقي رحمه الله بأنهم أصبحوا (سوبر باشوات)!؟. فطلقنا شعاراتنا التي تربينا عليها، وسخرنا من أنفسنا؛ لأنها كانت تدعونا لنشر الثورية والتغيير الجماهيري من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر!؟. فما ثار الخليج ولا هدر المحيط؛ بل تجاهل الجميع شعاراتنا الجوفاء الرنانة!؟. سداح مداحستان ... تلفظنا إلى رجعيستان!؟: وبعد أن أنهينا فترة الخدمة العسكرية، واستلمنا عملنا في مستشفيات متفرقة؛ وجدنا أنفسنا ضحية مرحلة معسولة أخرى وهي (مرحلة حلم السلام الانفتاحي)!؟. لقد وجدنا بلدنا تضيق بآمالنا المتواضعة، وتحاصر أحلامنا الوردية، حيث تحولت على يد قائدها الأوحد إلى مولد انفتاحي ازداد فيه الغنى غنى وازداد الفقير فقراً؛ وحول اسمها إلى (سداح مداحستان)!؟. وأصابنا الغثيان من كلمات سحرة الملك من جوقة السلام التائه الضائع المهين!؟. فهرب معظمنا إلي بلاد (رجعيستان) طلباً للرزق وأملاً في تحقيق أحلامنا التي أضاعوها وأضاعونا!؟. فسادستان ... وأخواتها: ثم عدنا بعد سنوات طويلة بحصاد عرقنا وثمار جهدنا وثمن غربتنا إلى بلدنا الحبيب؛ لعلنا نجد حضنها الدافئ الذي يضمنا، وقلبها الكبير الذي يرحب بنا ويعوض سنوات الغربة!. ولكننا وجدنا التغيير الصادم، ووجدنا الطوفان الفسادي الكاسح، والتردي الاجتماعي الساحق الماحق!؟. فلقد أهينت أمنا؛ أم الدنيا؛ فتحولت إلى زوجة أب قاسية!؟. وتقزمت الكبيرة؛ فغدت عجوز مهانة بلا أسنان؛ وضاعت قوتها الخشنة!؟. وتقوقعت العظيمة؛ ففقدت ريادتها السياسية، وظهر في الأفق السياسي من ينافسها بل يسبقها!؟. وتراجعت الأصيلة؛ فلم يعد لها ذلك البريق الثقافي، ولا تلك الهيبة الأدبية؛ وضاعت قوتها الناعمة؛ على يد إفرازات المرحلة المقيتة؛ مرحلة (التحنطر) و(اللمبي) و(إييييه الشعبولية)!؟. وحوصرنا بمنظومة عنكبوتية أخطبوطية من الفساد الكاسح؛ الذي ساد كل المجالات السياسية والمالية والبرلمانية والصحية والثقافية والاجتماعية!؟. وتغير اسم الكبيرة إلى (فسادستان)!؟. حتى صرخ المبدع الجميل فاروق جويده في رائعته النازفة (هذه بلادٌ ... لم تعد كبلادي). ووجدتنا نرى (وطني حبيبي ... الوطن الأكبر)؛ إلى ركام مسكين ومقهور، وبدا عبارة عن منظومة من شراذم البلاد المتطاحنة المتآمرة المفتتة مثل (قمعستان) و(تضييقستان) و(توريثستان), و(جهلستان) و(فقرستان) و(نفاقستان) و(محتلستان) و(مفتتستان). في أحضان حلمستان: جلست وحيداً أفكر في الحل هل كتب علينا أن نكون (جيل الأحلام المسروقة). فلِمَ لا أحاول التغيير الإيجابي؛ ولا تحسبونه هروباً؛ وبحثت كثيراً في بلاد مجاورة عن فرصة عمل تليق بي وبمؤهلي، وبخبرتي المتواضعة، وعرفت أن هناك بلدا مجاورا به فرص كثيرة للحالمين المبادرين!؟. فوقفت في الطابور الطويل وتحت لهيب شمس أغسطس الحارق وبيدي ملف أوراقي وسيرتي الذاتية المحترمة!؟. وساءني هذا الوجود الأمني الذي زاحمنا في كل شبر؛ فأشعرنا أننا جميعاً متهمون ومحاصرون وغرباء عن بلادنا؛ وقد اصطفت هذه الوجوة الكالحة القاسية المقنعة؛ لتنظيم الطوابير الهاربة!؟. فسنحت لي فرصة الجلوس على أريكة جانبية لأجفف عرقي!. ثم حصلت على تأشيرة لبلد ينعم بالحرية والديموقراطية، ويذخر بالعقول الخيرة النيرة؛ إنها (حلمستان)!؟. من الهروب ... إلى القمة!؟: لم تمر عليّ سنوات عدة في أرض الأحلام؛ حتى تقلدت عدة مناصب إدارية، ثم برلمانية، ثم قيادية!؟. ثم وجدتني من ضمن المرشحين لرئاستها!؟. وتحقق الحلم الذي تضائل وتواضع وتقزم أمامه حلم (أوباما)!؟. وأصبحت نجم الفضائيات العالمية، وصاحب الصورة الأولى، وبطل الخبر الأول في كل نشرات وصحف ومجلات الدنيا!؟. لقد أصبحت رئيساً واعداً لدولة (حلمستان)!؟. وزارة ... حلمستان!؟: وجاءت اللحظة الموعودة؛ إنها اللحظات الصعبة والتاريخية!؟. إنها لحظات تحقيق حلم الحالمين المساكين في كل أرجاء (وطني حبيبي ... الوطن الأكبر)!؟. فشكلنا لجنة استشارية يرأسها الثالوث الوطني الذهبي: (د. محمد البرادعي د. محمد سليم العوا د. عمرو الشوبكي). والتي ستختار الوزارة الانتقالية التي ستستمر عامين حتى يتم الانتخاب العادل النزيه. واجتمعنا على ضفاف النيل العظيم فوجدناه يسير كالعهد به بهدوء ويشاركنا السعادة، ومن بعيد تبدو الأهرامات في شموخ، ورأينا أبا الهول يكاد يهز رأسه موافقاً، وجلسنا نناقش الحصيلة الاختيارية للمرشحين للوزرة الانتقالية؛ والذين سيتم اختيارهم على أساس مواقفهم ونظافتهم وشفافيتهم ووطنيتهم وغيرتهم على بلادهم وألا يصطبغون بأي صبغة فئوية؛ حتى نستفيد من تجربة حماس؛ وهم: 1-رئيس الوزراء: أحد هؤلاء الرجال(د. يحيى الجمل د. جودت الملط المستشار هشام البسطاويسي). 2-وزير الخارجية: أحد هذين الرائعين (د. عبد الله الأشعل السفير إبراهيم يسري). 3-وزير الصحة: أحد هذين العظيمين (د. محمد غنيم د. أحمد عكاشة). 4-وزير الاقتصاد: د. أحمد السيد النجار. 5-وزير التموين: د. احمد الجويلي. 6-وزير الإسكان: د. ممدوح حمزة. 7-وزير العدل: المستشار محمود الخضيري. 8-وزير الشباب: حمدين صباحي. 9-وزير الثقافة: ضياء رشوان. 10-وزير التربية والتعليم: فهمي هويدي. 11-وزير التعليم العالي: د.حسن نافعة. 12-وزير الإعلام: سكينة فؤاد. وبينما كنا نستمتع بالنقاش الهادئ الموزون حول بقية اختيارات رجال وزارة الأحلام؛ فإذا بيدٍ غليظة تجذبني بقسوة من جلستي على الأريكة؛ ثم تصرخ في: الراحة أقصد الجلوس هنا ممنوع يا أستاذ!؟. فأفقت من سنة النوم التي أخذتني، وتأكدت من أن أوراق الهروب لم تزل بيدي؛ وابتسمت ساخراً من نفسي ومن أحلامي الطفولية البريئة، وتأكدت أنني لم أزل في (فسادستان) العظمى!؟. مع تحيات الحالم المسكين: د. حمدي شعيب استشاري أطفال زميل الجمعية الكندية لطب الأطفال (CPS) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية